تدوينات تونسية

صورة الجندي الإسرائيلي في مذكرات الكاتب السويدي هنينغ مانكل

عبد السلام الككلي

وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ، وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُلَّ أَمْلَاكِهِمْ. وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ. سفر العدد 31: 10-11

هنينغ مانكل هو كاتب سويدي… سافر مانكل مع أسطول الحرية الذاهب إلى غزة في 30 ماي 2010 لكسر الحصار الظالم الذي ضربته عليها الدولة العنصرية. فكان يدون وهو على ظهر سفينة من سفن الأسطول بعض مذكرات الرحلة…

هنينغ مانكل
هنينغ مانكل

النص طويل ترجم بشكل سريع إلى كثير من لغات العالم ونشرته اغلب الصحف الدولية الكبرى وقتها … نقدم بمناسبة المأساة التي يعيشها أهل غزة في هذه الأيام العصيبة وتنشيطا للذاكرة إلى قراءنا مقتطفا من تدوينة الكاتب السويدي مترجما عن الفرنسية. يحكي الكاتب هنا قصة تدخل االكومومندوس الإسرائيلي واختطاف السفينة وعمليات الاستنطاق التي تشبه التعذيب.

كتب النص بأسلوب عفوي جدا وبجمل قصيرة متتابعة بسرعة مدهشة. في هذا النص تظهر حقيقة صارخة وهي أن عملية اعتراض أسطول الحرية كان عملا إجراميا بكل المقاييس والمعاني. وهو ما يجعل من إسرائيل دولة مارقة ومن الجندي الإسرائيلي قرصانا ليس أكثر شرفا من قراصنة بحر الصومال. هذا الجندي الذي يحترف القتل في الأرض المحتلة أولا ثم يدمن على المخدرات في «جوا» إحدى الولايات الهندية بعيدا عن «ارض الميعاد» التي تحولت إلى لعنة.

فاذا كان المقاوم الفلسطيني من حماس نازيا وداعشيا فما هي الأوصاف التي يمكن أن نطلقها على الجندي الإسرائيلي من خلال هذه المذكرات المؤلمة ؟

ترجمة عبدالسلام الككلي

الاثنين 31 ماي الرابعة والنصف فجرا

لا أكاد أجد الوقت لأنام حتى أستيقظ من جديد. أرى وأنا اصعد إلى «الجسر» أن الأضواء الكاشفة تنير الباخرة الكبيرة، وفجأة اسمع طلقات نار فأدرك أن إسرائيل قد اختارت المواجهة العنيفة في المياه الدولية. تمر ساعة بالضبط قبل أن نرى الأفلاك المطاطية السوداء الصلبة تقترب وعلى ظهرها جنود مقنعون.. إنهم يستولون على السفينة.. نجتمع نحن هناك على مدرج القيادة.. لكن الجنود يريدون إنزالنا إلى «الجسر».. يفقدون صبرهم، يأخذ رجل بعض الوقت ليطيعهم فيتلقى على الفور طلقة مسدس على ذراعه، فيسقط، ويصاب آخر -وقد تثاقل- برصاصة مطاطية. أعتقد أن هذا يحدث بجانبي، انه حقيقة مطلقة.. أناس لم يفعلوا شيئا يهرسلون كالماشية ويعاقبون على إبطائهم..

نجمّع على الجسر ونجبر على الجلوس ونبقى هناك لمدة إحدى عشرة ساعة حتى ترسي باخرتنا في إسرائيل.. كان الجنود يصوروننا من وقت إلى آخر رغم انه لا حق لهم في ذلك.. أريد أن أدون بعض الجمل لكن جنديا يتقدم في الحال ويسألني عما اكتب.. هذه هي المرة الوحيدة التي أتوتر فيها..أرد عليه بان هذا ليس من شأنه.. لا أرى سوى عينيه ولا اعرف فيما يفكر.. لكنه استدار وانصرف.. إحدى عشرة ساعة ونحن متكدسون في الحر.. يبدو هذا ضربا من التعذيب..

وحتى عندما نحتاج إلى التبول نطلب الإذن في ذلك.. كان كل الطعام الذي يعطى لنا بسكويتا وخبزا محمصا وتفاحا. لم يكن لنا الحق في إعداد قهوة رغم انه كان بإمكاننا أن نعدها دون أن نفارق مكاننا.. قررنا معا أن لا نطلب من الجنود السماح لنا بالطبخ وإلا فإنهم سيصوروننا وسيفيدهم هذا فيما بعد ليبينوا أنهم كانوا كرماء معنا، نكتفي إذن بالبسكويت.. الوضعية بأكملها إهانة جماعية (في غضون ذلك كان الجنود يسحبون الفرش خارج المقاصير وينامون على الجسر الخلفي..).

لدي كل الوقت خلال هذه الإحدى عشرة ساعة لأتوصل إلى خلاصة.. لقد هوجمنا في عرض البحر، في المياه الدولية.. هذا يعني أن الإسرائيليين يتصرفون كقراصنة وهم ليسوا أفضل من أولئك الذين يشتدون في عرض بحر الصومال. وفي اللحظة التي استولوا فيها على قيادة السفينة وبدؤوا يشقون الطريق نحو إسرائيل يمكن أن نقول إننا تعرضنا أيضا لعملية اختطاف… لقد كان هذا التدخل من بدايته إلى نهايته خارجا عن القانون.

نحاول أن نتحدث فيما بيننا لنفهم ما الذي يمكن أن يحدث في هذه اللحظات.. ونحن مصدومون من أن الإسرائيليين قد استطاعوا اختيار هذا «الحل» الذي يضعهم وظهورهم على الحائط والذي يورطهم.. كان الجنود ينظرون إلينا.. البعض منهم يتظاهرون بأنهم يجهلون الإنجليزية لكن في الحقيقة كانوا كلهم يفهمونها جيدا.. وكان بينهم أيضا بعض الفتيات، يظهر عليهن الحرج.. ربما سيكون بينهن أو بينهم من سيفر إلى جوا ليتعاطى بعد خدمته العسكرية المخدرات حتى الموت وهذا ما يحدث دائما.

الساعة السادسة

عندما وصلنا إلى الرصيف في احد مواني إسرائيل -لا ادري حيث يقع- أنزلونا على الأرض وأجبرونا على الجري في الطرقات بين الجنود بينما تصورنا التلفزة العسكرية.. واعتقد أن هذا هو الشيء الذي لن اغفره لهم أبدا.. هذا الشيء على وجه التحديد.. لم يكن في مخيلتي في هذه اللحظة سوى الأوغاد والقاذورات..

فصلونا بعضنا عن بعض.. ولم يكن لنا الحق في التواصل فيما بيننا.. وفجأة هاهو شخص من وزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية ينتصب بجانبي.. افهم انه هنا ليتأكد انه لن يقع تعنيفي كثيرا.. فأنا رغم كل شيء معروف بالقدر الكافي في إسرائيل ككاتب وأعمالي مترجمة إلى العبرية.. سألني إذا كنت احتاج شيئا

  • نعم.. أن يطلق سراحي.. وسراح البقية أيضا.

لم يجبني.. طلبت منه أن ينصرف فتأخر بعض خطوات لكنه لم يذهب رغم ذلك.. بطبيعة الحال لم اعترف بشيء.. أعلمت انه سيقع طردي، وأضاف الرجل الذي حمل إلي الخبر انه معجب بكتبي.. أفكر في احتمال أن أجد طريقة حتى لا تقع ترجمت كتاباتي إلى العبرية في المستقبل.. لكن هذه فكرة لم تصل بعد إلى منتهاها..

يسود جو من الفوضى العارمة في «مركز الإيواء» هذا… يضرب احدنا في الفينة بعد الفينة.. يطرح أرضا ويربط وتقيد يداه.. فكرت عدة مرات انه لا احد سيصدقني عندما سأحكي قصتي.. ولكن كثيرا من العيون تشاهد ما تشاهده عيناي.. كثيرون من سيشهدون.. كثيرون من سيضطرون إلى التسليم بان ما أقوله هو الحقيقة.. مثال واحد يكفي.. كان بجانبي رجل رفض فجأة أن تؤخذ بصماته.. ولكنه رضي بأن يقع تصويره.. لماذا تؤخذ بصماته؟ انه يعتقد انه لم يقترف شرا.. ولذلك رفض وقاوم.. وقع ضربه.. وحين بطح أرضا جر خارج القاعة.. إلى أين؟ لا ادري.. أي كلمات استعملها؟ بشاعة.. لا إنسانية.. علي فقط أن اختار لفظا من هذين اللفظين..

الساعة الثالثة والعشرون

اقتدنا نحن السويديين الثلاثة أنا والنائب والمرأة الطبيبة إلى مركز للإيقاف.. وقع فصلنا والقوا إلينا بساندويتشات لها طعم نشافة غسيل قديمة.. كان الليل طويلا.. وكان حذائي عبارة عن وسادة لي..

1 جوان ظهرا 

فجأة وقع جمعنا أنا والنائب.. وأعلمونا انه سيقع اقتيادنا إلى طائرة من طائرات لفتانزا ليقع ترحيلنا.. رفضنا أن نرحل حتى نعلم مصير مرافقتنا س. ولما علمنا أنها في الطريق هي أيضا غادرنا زنزانتنا… في الطائرة أعطتني المضيفة زوجا من الجوارب فقد عمد احد أفراد الكمندوس إلى سرقة جواربي في المركب الذي كنت على متنه.

انهارت أسطورة.. أسطورة الجندي الإسرائيلي الشجاع والمثالي.. الآن يمكن أن نقول عن الجنود الإسرائيليين أيضا إنهم سارقون حقراء.. لم أكن أنا الوحيد الذي وقع سرقته.. نقود.. بطاقات ائتمان.. ثياب.. آلات إضاءة.. حواسيب.. كل هذا كان عرضة للنهب.. لقد تعرض الكثيرون منا إلى السرقة على سطح هذه السفينة التي هاجمها في الفجر جنود ملثمون ليسوا في الواقع غير قراصنة مزيفين…

في الغد الثاني من جوان استمع إلى طائر ينحب… إنها أنشودة إلى كل من قضوا نحبهم.

الآن تبقّى ما يجب فعله.. حتى لا نضيع الهدف.. وهو أن نرفع الحصار عن غزة.. سيحقق ذلك.. ووراء هذا الهدف ينتظر آخرون… أن نقضي على نظام ميز عنصري.. يحتاج هذا بلا شك إلى وقت.. ولكننا لن ننتظر إلى الأبد.

اسطرلاب

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock