تدوينات تونسية

الطهار

قيس العامري

كان الصبي يمرح مع أقرانه وقد تناسى مقص الطهار وخيطه اللعين، كان يفكر في الدنانير التي ستملأ كبوسه الأحمر الجديد.

تارة يرقص على أنغام الزكرة وطورا يحتسي ألوانا مختلفة من المشروبات الغازية وتارة أخرى يعود إلى المطبخ أين يغنم ما لذ وطاب من الأكل.

لباس الختان
لباس الختان

كان يبحث عن إلهاء نفسه إلى أن سمع أحدهم يصيح: “هاو الطهار جاء”
صعقته الجملة وغاصت بقلبه بين ضلوعه، فالتفت مرعوبا ليرى رجلا ستينيا على بغلة تميل إلى السواد، تسمر مكانه واستبد به الهلع وغمرته الرهبة حتى أنه شعر أن بغلة الطهار تختلف عن بقية البغال وتفوقها علوا وقوة وجمالا.
بدا له الطهار رجلا أنيقا مهابا يحمل وقار الشيوخ وقوة الشباب وعلم الأطباء، كيف لا وقد أشرف على ختان كل شباب المنطقة، زاده في ذلك الخيط والمقص، لا مشرط ولا مخدّر ولا مطهّر..

هرع إليه الناس مرحبين مهللين، كان نحيفا شديد السمرة تبدو عليه علامات الذكاء، متوسط القامة أجعد الشعر كثيف الحاجبين غليظ الشفتين دقيق الأنف يلتف بلحاف ذهبي اللون.
رافق والده عم الزين الطهار إلى الداخل وأكرم وفادته.
بعد دقائق كانت أمه تقوده صحبة شقيقه إلى غرفة واسعة بعد أن غسلت لهما أطرافهما ثم قدمت لهما لباسا جديدا لكن لم يبدُ على الطفلين أي أثر للفرحة، كل ما يشغلهما مقص الطهار الذي سيقطع قلفتهما.

جلس تحت دالية العنب حذو أخيه ينتظر مصيره المحتوم وصديقه منجي المشاغب يحوم حوله لا يكاد يخفي نظرة الشماتة في عينيه وهو يردد: “صايي بش يقصوهالك، الطهار حضّر المقص والخيط”.
كان ينظر إلى صديقه يكاد ينفجر من الغيظ يودّ لو ينتهي هذا الكابوس في لمح البصر.
انتشله من شروده صوت أجش يقول: “نبدو بالصغير، خلي الكبير ينجم يتحمّل”.
ارتجف واهتز وشعر أنهم يتخيرون أضحية مناسبة، لقد جعلوا منه الخروف السمين الذي يُترك إلى آخر حفلة الشواء.
اقتادوا أخاه إلى الداخل وهو يحاول التراجع والتملص منهم لكنهم أحكموا قبضتهم عليه وساقوه أمامهم مرددين: “لقد كبرت وصرت رجلا وحانت لحظة ختانك وستجمع مالا كثيرا”.
كانت مجرد كلمات لعينة لم تبعث أبدا الاطمئنان في قلبه.
دمعت عيناه وهو يستمع لصراخ # صابر # في الداخل والتهمه الخوف ومرت الدقائق ثقيلة ومتعثرة كخطوات عجوز بدينة.
فُتح الباب وانخلع قلبه وتيقن أن دوره قد حان، نهض محاولا فرد قامته والسير بخطى ثابتة لكنه لم يفلح، اصطكت ركبتاه وتسارعت دقات قلبه وجف حلقه وغارت الدماء من وجهه حتى صار يحاكي وجوه الموتى.
انتبه إلى زوجة خاله وهي تضع أساور فضية داخل علبة نحاسية اسطوانية الشكل وتحركها ذات اليمين وذات الشمال دون أن تتوقف عن الزغاريد.
غصت الغرفة بالنسوة اللاتي كن يغنين ويصفقن ويزغردن واختلط ضجيج الأساور بالزغاريد والغناء وتحول إلى يد خشنة معروقة تمتد نحو عنقه لتكتم أنفاسه..
صوت مزعج يخترق أذنه ويحدث رجفة قوية في قلبه تصيبه بالجزع وهو بين يدي الطهار ورجال غلاظ يمسكونه كخروف مذعور.
عض على شفتيه ونظر إلى سقف الغرفة ودموعه تسيل في صمت ودعا ربه أن ينتهي الأمر بسرعة وبين الفينة والأخرى كان الرجال يرددون: “صايي كملنا، أكاهو كملنا”، لكنهم لم ينتهوا أبدا.
كره الصبي منذ ذلك اليوم الزغاريد وضجيج الأساور وبات يشعر بالتوتر والرهبة كلما سمع تلك الأصوات.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock