تدوينات تونسية

الفرد التابع يتخذ قراراته لأنه لا يفهم وليس لأنه يفهم

فوزي مسعود عليمي

ليس في الأمر ذمّ لأي كان، وإنما هي حقيقة التصور البشري أنه قاصر ولا يمكنه بلوغ الكمال وتزداد الملاحظة أكثر صوابية في اللاماديات ومع نوعية من البشر ممن سلم للغير أن يوجهه.

العملية التصورية التي تمثل الإطار الذي تتحرك فيه أفعال الفرد، وقد تبقى مجرد تصورات بغرض تكوين أفكار من دون بلوغ الفعل المادي، تتحرك وتنمو في مدى ينطلق من بداية لكن نهاياته لا يمكن بلوغها، وسبب ذلك أن التصورات لكونها مفتوحة الأفق يجعل حدودها لا يستطاع بلوغها إلا أن تكون تصورات متعلقة بمعارف مضبوطة وليس أفكارا.

يكون من نتيجة ذلك أن التصورات البشرية تكون مفتوحة النهايات، ثم لما كان الناس يختلفون في قدراتهم لتوليد التصورات، فإن من أثر ذلك أن التصورات البشرية تختلف بين الأفراد حتى في نفس الموضوع نسبة لمعانيها ومساحتها.

التحرك في التصورات يمثل إجهادا ذهنيا بغرض تعقب المعاني السائبة بهدف حصرها ثم فهمها، وقد يكون بغرض بلوغ معاني محددة مسبقا.

فالعمل الذهني إذن مجهود تتغير نتائجه من حيث التحقيق، لذلك فالذي يسعى للخشوع في صلاته تختلف درجات سعيه للخشوع من مرة لأخرى، لأن فعل الخشوع إجهاد ذهني لبلوغ معاني يعرفها مسبقا ويطمح بهدف بلوغها للتجرد من أثر المحيط للاستقلال بها والتزود منها.

ولكن سعيه الذهني لبلوغ تلك التصورات يمكن أن تتراوح بين ممكنين، إما في أدنى درجاته لا شي حينما يصلي وهو مستغرق في أمر دنيوي لا علاقة له بالصلاة وقد يبلغ من جهة ثانية أحيانا مراتبا معتبرة بتمثله معاني قدرة الخالق وحال قربه منه حين سجوده.

بالمقابل الفرد في سياق تحركه بالواقع، مطالب أن ينتج الأفعال المفترض أن تتأتى بعد تصور ذهني، مع ما يتطلب ذلك من مسار تصوري وإجهاد خيالي.

ولما كان المسار الذهني ذلك ليس متاحا دائما بنفس العمق لاعتبارت عديدة، فإن أفعال الفرد عادة لا تتأسس على عمق تصوري تجريدي، وإنما تكتفي بإطار تصوري جاهز يقع عادة أخذه من الغير وهي عموما أدوات التوجيه الذهني التي تزود الناس ضحاياها، بتصورات جاهزة تحمل تفسيرات متكاملة لكل الحاجيات التخيلية التي قد يعلق بها الفرد حين إجهاده الذهني.

•••

هذا التفسير يوضح لنا حقيقة كون أفعال الفرد التابع لا تصدر من خلال بناء ذهني منتج ذاتيا، وإنما هي أفعال تنبني على تصورات مستعارة من الغير، بسبب العجز عن إنتاج التخيل الخاص الذي يمكّن من توليد فهم للموضوع، وهو عجز إما بفعل عدم القدرة الذهنية للفرد أو بفعل عدم الإمكان مع توفر القدرة لاعتبار الظروف.

إذن نصل لحقيقة كون الفرد التابع حينما يصدر موقفا، فإنه يفترض أنه إنما يفعل ذلك نتيجة فهمه للموضوع، بينما هو يفعل ما فعل لكونه لا يفهم، فهو لا يملك من الفعل إلا ظاهره أي المكون المادي بينما البناء التصوري للفعل استعاره من الغير أو فرض عليه.

فيكون نتيجة هذا التفسير أن الفرد التابع يصدر المواقف باعتبارها تلك، لكونه لا يفهم مايجب أن يكون وليس كما أوهم الغير أنه موقف نتيجة فهم الموضوع.

•••

هذا التحليل يمثل تفسيرا لطريقة عمل أدوات التشكيل الذهني (تعليم، تثقيف، إعلام) التي يعتبر الفرد التابع مادتها المفضلة، وهو العنصر الذي يتميز بخاصية عدم مراجعة المسلمات لديه ويتقبل برضوخ ما تضخه تلك الأدوات من معاني.

ثم إن العجز عن إنتاج التصور الخاص لدى الفرد التابع يجعله يراكم كمّا غير متجانس من المعاني، وهذا الذي يفسر وجود التناقضات لديه.

خذ مثلا، فإن التونسيين يتأسفون على ضياع الأندلس ولا يدركون بالمقابل أنهم في تونس حاليا تحت تحكم منظومة فرنسا منذ عقود، يقربون لحال الأندلس في مستوى ضياع لغتهم ودينهم وقبولهم بذلك والتعايش معه، ورغم ذلك لا ينتبهون لهذا التناقض في تصوراتهم، لأنهم متحكم فيهم ولا ينتجون المعاني ذاتيا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock