مقالات

الضّرب والتّعليم

بشير العبيدي‎ 

#تربية_وتعليم |

اليوم أكتب عن الضرب في المؤسسات التعليمية. لقد كان الضرب منتشرا في المؤسسات التعليمية حين كنت في الابتدائية. ولقد تعرّضت في صغري للضرب المبرح، وكسر معلم يدي اليسرى بعصا من شجرة الزيتون، لأن أحد زملائي رمى على السبورة ورقة ملفوفة، فاعتقد المعلم أنني أنا من فعلت ذلك. يدي اليسرى إلى يوم الناس هذا تؤلمني بسبب آثار ذلك الكسر. في كل مرة أسجد في الصلاة، أتألم فأتذكر ذلك المعلم الذي ضربني ظلما. وهو لو ضربني بسبب ما اقترفت يدي لن يجعل من الضرب حيلة للأذكياء.

اليوم، بوسعي أن أقولها بملء فمي: الضرب والإهانة في التعليم يبقى أثره مدى الحياة. وهو من روافد إذلال الشعوب وجعلها جبانة وخاضعة وذليلة. والأمم ذات الشأن العظيم لا تضرب أطفالها لأنهم مستقبلها. وجروح التعليم والتنشئة وما تتركه في نفوس الأطفال من مآسٍ وكلومٍ وآلامٍ، هي جروح صامتة في الظاهر، لكنها في الباطن تبقبق كالقدر التي تغلي بما فيها.

وإنني أكتب هذه المقالة لأنه، خلال دورة تدريبية في باريس، قال لي أحد المعلّمين، وهو مسلم من أصول إفريقية : أريد أن أسألك أيها الأستاذ عن رأيك في الضّرب، وذلك أنَّني عانيت الأمرّين من الضّرب، حتّى أن الشيخ الذي كان يعلّمني القرآن، عذّبني بمائة وثلاثين جلدة على رجليّ عن طريق الفلقة، لأنني نسيت نصف صفحة مما حفظته، فهل يجوز لهذا الشيخ أن يجلد كلّ هذا الجلد من أجل النسيان؟

الضّرب والتّعليم
الضّرب والتّعليم

أصابتني صعقة وأنا أسمع هذه الشهادة وسكت لهول ما سمعت… فأضاف المعلم قائلا : وعندما كبرنا قلنا له في ذلك، فاعتذر، ولكن بقي الأمر في نفسي ونفوس التلاميذ الآخرين، ولقد أنشأنا مجموعة نقاش على الشبكة وتطارحنا الموضوع بيننا…

فأجابه معلّم آخر قائلا: أنا أيضا كان والدي يضربني ضربا مبرحا، وأنا الْيَوْم أقول : لعل ذلك الضّرب هو الذي جعل مني الْيَوْم شخصا مستقيما ! ثم توالت ردود الأفعال على القولين، ودخلنا في نقاش متشعّب حول استخدام طريقة الضّرب في العقاب، وما تخلّفه في النفوس.

على أنّ أسوأ أنواع الضّرب في التعليم وأبلغه أثرا في النَّفْس هو الضّرب الذي يصاحبه الغضب والتشفّي، وهو ضرب فيه نتن السادية التي هي التلذذ بتعذيب الآخرين، لا الضّرب التأديبيّ الخفيف غير الموجع الذي يكون هدفه نفسيٌّ بالدرجة الأولى، لكن هات من يستطيع السيطرة على نفسه فيميّز بين هذا وذاك ! وهات من يمنع نفسه من التشفي فيمتنع من أن يفثأ عطشه للانتقام بالضرب المبرح الذي يترك في النفوس آثارا قلّما تمّحي! إنّ ذلك لمن الصعوبة بمكان!

فهل فكّر المعلّمون الذين يضربون المتعلمين، أو يعنّفونهم، أو يعتدون عليهم لفظيا، أو يقومون بحركات مزعجة من نوع القرص وجذب الأذن، في الآثار المدمّرة لكل ذلك وما تخلفه العقوبة البدنية واللفظية من انكسار في النفوس، وشعور بالدونية، وخوف ورهبة، وكره للتعلم؟ هل طالع المعلّمون الذين يضربون المتعلمين كتبا ودراسات وشهادات عما تخلفه تلك الطرق البالية من آثار نفسية عميقة، على مستوى الفرد والمجموعة؟

نعم، كثيرون هم أولئك الذين يقولون: لقد كان الاحترام سائدا والخوف قائما لما كان الضّرب،. أما الْيَوْم، فالتلاميذ حين أمنوا الضّرب سقط من اعتبارهم المعلم والأستاذ ولَم يعد لهم اكتراث به. وهذا الكلام لا يعتدّ به شكلا ومضمونا.

لأن الحقيقة التي لا يريد أن يعيها كثيرون هي أن الزمن تغير والثقافة العامة تبدّلت بتبدل الحال، فلم يعد المعلم الْيَوْم هو الملهم ومصدر المعلومة الأوحد كما كان في السابق، حين كان الأولياء يأتون إليه بصبيانهم قائلين : نعطيك اللحم وحاسبني بالجلد ! لقد ولى ذلك العهد وانقضى ! وصار دور المعلم أعقد بكثير لأنه عليه الْيَوْم وزر التحفيز والتوجيه والمرافقة والتنشئة بالمثال، وليس مجرد التلقين للمعلومة كما كان الشأن في سالف الأيام.

على أن كبار العلماء في علوم التربية، قديما وحديثا لا يعترفون للضرب، المبرح منه والحفيف، بأي فضل على الإطلاق، والاعتداء اللفظي أشد إيلاما، فالضرب يكسر النفوس ويذلها ويغشمها. وهذا العلامة عبد الرحمن بن خلدون يقول في كتاب المقدمة كلاما، لو كنت من أهل المسؤولية لعلّقت نصّه في جميع نوادي وقاعات المعلمين، وهو قوله :

(وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه العسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غابتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء).

#بشيرالعبيدي | ربيع الأول 1445
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا
لقراءة المنشورات السابقة #تربية
وتعليم

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock