مقالات

عن مؤتمر النهضة

نور الدين الغيلوفي

رأي

1. لولا أنّ بعض الأصدقاء سألني رأيي في مؤتمر حركة النهضة ما كنتُ لأكتب.
فأنا، من زمن بعيد، لم أعد معنيًّا بما يجري داخل النهضة ولا أراني أهلا لأن أبديَ رأيا في شأنها.. ليس في الأمر هروبٌ ولا هو من باب التقيّة.. فقط لست أميل إلى الصخب.
أنا أؤمن بالأحزاب رافعةً للسياسة ولكنّني فقدتُ حماستي إلى كلّ عمل حزبيّ من وقت بعيد يعرف به من يعرفني، ولم يعد لي من همّ سوى أن أرى بلادي تشقّ طريق حداثتها السياسيّة على عجَلة الحرية في مركبة الديمقراطيّة.
ولكن باعتباري مواطنا معنيا بالشأن العام أرى من واجبي أن أبديَ رأيي استجابة لسؤال من سألني.

راشد الغنوشي
راشد الغنوشي

2. إذا كان بعقلاء البلد حرصٌ على الديمقراطية فعليهم أن يظلّوا على إيمانهم بعمل الأحزاب باعتبارها مكوّناتٍ ضروريةً للديمقراطية التمثيلية التي لم تهتد البشريّة إلى بديل لها إلى حد الآن.
الشعبويّات التي أنكرت الأجسام الوسيطة ورأت في الزعيم إلاها قادرا، وحده، على كلّ شيء لم تنجح في أيّ مكان من العالم. وتبقى الأحزاب هي تعبيرة الانتظام السياسي الأرقى والأقدر على صياغة نظام ديمقراطيّ تُحلّ به المشاكل وتقام به المنجَزات.

3. وتظلّ النهضة في تونس مدرسة حزبيّة محترمة ومختبرا للسياسة هامّا. ولو كان في البلد ديمقراطيّون منصفون لساعدوها على تطوير نفسها وتجنّب أعطابها، لتساعد هي، بدورها، على الارتقاء بالتجربة السياسية بعد أن قامت في البلاد ثورة سياسية.
النهضة هي الكيان السياسيّ الأهمّ الذي تصدق عليه تسمية الحزب، ومن حقّها تجديدُ هياكلها وتغييرُ قياداتها وضخّ دماء جديدة في جسدها عبر مؤتمرها… هذا نظريًّا.

4. ولكن ما فائدة ذلك في ظلّ هذا الموات السياسي الذي فرضه الانقلاب على البلاد؟
ما الذي سيضيفه المؤتمر إلى الحزب وإلى البلد في هذا الوقت؟
قد يكون المؤتمر سبيلا تخترق منه السلطة الحزبَ فتسحقه سحقا، لأنّ السلطة تظلّ على ريبتها، لا تطمئنّ إلى أيّ جسم وسيط يمكن أن يحفظ بذرة السياسة ويهدّد، يوما، باستنباتها.. إنّها ترى فيه تهديدا لها.. ذلك لأنّ الدكتاتورية لا ترى في كل مخالف لها غيرَ تهديد.. وكلّ تهديد وجبت إزالتُهُ. لأجل ذلك يحتفل المنقلب، في خطابه، بعبارة التطهير، وهي أكثر العبارات استعمالا في خطابه.
السلطة مختزَلة في المنقلب والمنقلب يرى النهضة في الغنوشي. ولأنّه لا يرى زعيما غير نفسه فقد اعتقل الغنوشي لما يرى فيه من منافسة لا يقبلها.

5. أظنّ أن اعتقال الغنوشي ونائبيه البحيري والعريّض على صلة بالمؤتمر المنتَظَر.. ولا أرى صلة للاعتقال بغير ذلك، لأنّ الرجال الثلاثة معتقلون منذ شهور من دون تهمة.
السلطة تمكّنت من الاتحاد فحوّلته إلى جثة هامدة لا حراك بها، وأرجو ألّا تكون الوعكة التي أصابت أمينه العام سببُها القهر الذي لقيه بعد أن طأطأ المنظمة كلّها لموجة الانقلاب دون أن يجديَه ذلك نفعا.

6. كاسحة الانقلاب سوّت كلّ شيء بالأرض ولم يبق أمامها من عقبة سوى النهضة.
النهضة هي بذرة السياسة الوحيدة الباقية من أثر الحريق السياسي الذي أتى على كلّ حيّ، ربما لأنّ المحن التي شهدتها مع الأنظمة السياسيّة السابقة قد لقّحتها وجعلتها مستعصية على الأوبئة.. لقد حافظت على الحرية وحمت شجرة الديمقراطية عشرًا، ولكن لأنّها تُركت تقاوم وحدها فقد وصلت النيران وأصابت تونس كما أصابت دولا أخرى قبلها.
وجاء دورها، الآن، لتكون البذرة الحيّة التي تنبتت منها شجرة السياسة.. ذاك من مكر التاريخ.. حزب سياسيّ “متديّن” يقال عنه ظلاميّ يحيي موات السياسة ويكون خطَّ دفاع الديمقراطية الأخيرَ.

7. نظام الانقلاب أكثر سوءا من نظامي بورقيبة وبن علي، ولكنّه اختار ألّا يتبع طريق الاستئصال العاري، بل سلك طريق الاختراق والاحتواء والقتل البارد، اعتمادا على نظرية “اقطع الرأس تمُتِ العروق” التي لا أستبعد أن تكون الدوائر المتنفّذة مؤمنة بجدواها.
سجن الغنوشي والعريّض والبحيري قد يكون الهدفُ منه تصعيدَ قيادة أخرى “قانونية” تتّفق مع قانون الحزب، ولكنّها ستكون قيادة سهلة الترويض لأنّها تبقى محلَّ ريبة من منتسبي الحزب بسببٍ من سياق صعودها.
سيكون صعود قيادة جديدة، تحت عين السلطة، مجرّدَ لعب على الشكل القانونيّ.. والانقلاب كلّه لا يعدو لعبا قانونيا شكليا.

8. سيكون المؤتمر إذا أسفر عن قيادة تتجاوز القابعين في سجن الانقلاب، ابنا للفصل 80 من دستور 2014 كما فهمه المنقلب وكما عمل به.. وستكون القيادة الحاليّة هي الخطر الداهم الذي سيسهل الخلاص منه، ويتمّ تسليمها على طبق إلى المنقلب يعدّها للذبح.

9. لست مختصّا في القانون ولا أنا من المطّلعين على كواليس النهضة، ولكنّني أرى أنّ مؤتمر حزب سياسي في ظلّ مناخ ماتت فيه السياسة، تحت رقابة الذي أماتها، سيكون الرصاصة الأخيرة التي تُميت في البلد كلّ شيء.. وتحوّله إلى مقبرة لا تصلح لحياة.
إنّ خطأ قانونيًّا يتمثّل في تأجيل المؤتمر واستمرار قيادة الحزب الحاليّة أهون من خطيئة استراتيجيّة تموت منها السياسة وينهار الوطن ويندثر الحزب.

10. حزب النهضة عوّدنا على خياراته البراغماتية، ومن البراغماتية أن يواصل الالتفاف حول زعيم فشلت حركة النهضة في أن تلد مثله. لا أقول هذا لتمجيد شيخ جاوز الثمانين، ولكنّني أرى البِرّ بالرجل أولى من عقوقٍ عنوانُه الشرعية والقانونية.
اعتبارا لمكانة راشد الغنوشي في النهضة سيكون تجاوزُه، وهو في المعتقل، طعنة أشبه بعمل أبناء انتهزوا فرصة غياب أبيهم فحجروا عليه لاقتسام التركة.. في حين أنّ التركة لا شيء.
الغنّوشي جزء من معركة داخل الحزب، وحسم المعركة في غيابه القسريّ سقوط أخلاقيّ وهلاك سياسيّ.

11. الديمقراطية ليست أشكالا انتخابية ولا هي مجرّدَ تغيير للقيادات، خاصّةً في مثل السياق الذي البلادُ فيه. إذ لن تستطيع القيادات القادمة ما لم يستطعه الغنوشي.. ولن تكون منها إضافة نافعة.

12. دعوا الأمر كما هو تبقَ البذرة حيّة في تربة حدّ الأخلاق الأدنى وحدّ السياسة الممكن.. فإنّكم إن أثرتم التربة، مع هذا الجفاف، لن تأمنوا موت البذرة.

هذا رأيي
ألا هل بلّغت.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock