مقالات

راشد الغنوشي كلّ عام وأنت بخير

نور الدين الغيلوفي

1. أعلم أنّني أسير ضدّ التيّار حين أكتب عن الغنوشي في هذا الزمان الانقلابيّ.. هو زمان انقلابيّ في كلّ شيء.. الدولة باتت فيه بلا عقل والقضاء لم يعد مطلبه العدل، والحقوق باتت مطلبا يرمى المدافعون عنه بالخيانة والتآمر.

راشد الغنوشي
راشد الغنوشي

2. ولكنّني سأكتب في الغنوشي وفي كلّ مظلوم، دفاعا عن بلادي التي يهدّد الظلمُ بخراب عمرانها.. أكتب في الغنوشي لأقول إنّه مظلوم، وليس أقدس، عندي، من نصرة مظلوم على من ظلمه بقطع النظر عن نسبة الظالم وهوية المظلوم.

3. الغنوشي بات الآن وحيدا في سجنه تتناهشه الجراد والقمّل والضفادع بقيادة من خفافيش وثعالب وضباع.. ولكنّ كلّ هاتيك تبقى أسيرة منازلها الوجوديّة وإن استعلت واشتدّ سُعارها وتغلّبت بالقوّة.. ويبقى الغنوشي ضحية الظلم.. وكلّ مظلوم سيّدُ ظالمه في فهمي.

4. أكتب في الغنوشي انحيازا إلى التاريخ الذي سيمجّد سيرته حين يختفي كما يرذّل سير الذين خافوه ولم يطيقوا صبرا عليه فسجنوه.. ورأوا في سجنه نصرا لهم.. ورقصوا على جثّة الحريات والديمقراطيّة وحقوق الإنسان.

5. كان يمكن لو كنّا في بلد يحترم نفسه أن نشهد معاملة لهذا الرجل تليق به ونرى احتراما يرقى إلى عقله ونلمس تقديرا يناسب علمه ونلحظ تثمينا في مستوى منجَزه.. وكان يمكن أن ينقده ناقدوه ويهاجمه مخالفوه في كنف الاحترام الذي يليق بالعقول والأفهام ليستفيد الناقد والمنقود، ويستفيد من ورائهما الوطن.. الرجل ليس منزَّها عن الخطأ ولا هو من صنف المعصومين.. ولا أظنّه ادّعى ذلك لنفسه يوما.

6. ولكنّنا في بلد تسوق مزاجَه الغوغاء.. والغوغاء إذا ساقت أضلّت وإذا سادت أذلّت، وتباهت بالضَّلال وتفاخرت بتدبير الإذلال.. إذ ليس لها غيرُ الضلال منهجا وسوى الإذلال رسالة و”طياح القدر” بضاعةً.

7. بعيدا عن التقديس الفارغ، راشد الغنوشي رجل كبير ولكنّه مثل تلك الثروات التي كان حظُّها أنّها أُلقيت بين ورثة سفهاء فأهدروها وعمّموا الفقر بضياعها.. لتكون من تعميم الفقر عدالتهم المرتجاة.

8. قديما أهانت الغوغاء عبد العزيز الثعالبي وطاردت الطاهر الحدّاد وحاصرت محمّد علي الحامّي.. وما فعله الأسلاف مع هؤلاء يصنعه أخلافُهم الأجلاف مع راشد الغنوشي..كلّ يسير على النهج الذي اختاره لنفسه.. ولكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا كما قال، في ما مضى، سيدُ الشعر والشعراء.

9. لقد صنعت غرفة عمليّات يتزعّمها أراذل مكيدةً للإيقاع براشد الغنوشي، ولا أظنّهم قد انتهوا من تدبيرهم بعد أن أودعوه السجن ظلما وعدوانا، ولعلّهم يفترضون موته قبل أن يحكم قضاءٌ ببراءته من تُهَم لم يتمّ إلى حدّ الآن، في ما أعلم، تكييفُها.. يتخلّصون منه في أمانيهم فيحملون الدولة على التنكيل به استجابة لتلك الأماني.

10. لقد قرّرت غرفة الغوغاء تلك إعدامَ الغنوشي منذ أن صاحت تلك المرأة “يا غنوشي يا سفّاح يا قتّال لرواح”، ولست أظنّ بتلك النائحة عبقرية جادت عليها في لحظة حزنها تلك بذلك الشعار الذي لا يزال يردّده توابع الغوغاء عند كلّ موسم لتظاهرة “شكون قتل شكري؟”.. لم تكن عبقريّة لتقول ما قالت، بديهةً، ولكنّها قالت ما حُفّظت قبل الاغتيال ربّما لتلهب الأقوالُ في الأمزجة قبيحات الأفعال.. وليس أقبح من قتل النفس التي حرّم الله بلا حقّ.

11. ببساطة: قُتل شكري بلعيد برصاصة ليُغتال بقتله راشد الغنوشي على مهل.. بقية التهم تفاصيل للتمويه لا غير.. الخطّة جمعت بين الرجلين في وحدة المصير.
كانت مكيدة مدبَّرة بإتقان ضدّ الغنوشي وحزبه. لقد قرّرت غرفة عمليات الغوغاء المستخدَمة إعدام الإسلام السياسي مرّة واحدة. وهو قرار سابق يبدو أنّ الجهة التي اتّخذته أحكمت خطّتها لتكون خاتمتها تأميم الدولة لاستعمال عنفها ضدّ أنصار الحرية والعدالة والكرامة الوطنية.. وأظنّ الغنوشي لا يخرج عن هؤلاء.. لذلك يستهدفونه وينكّلون به.

12. راشد الغنوشي لم يؤذ أحدا ليلقى كلّ هذا الأذى. لم يخلف وعدا ولم يحنث بقسَم ولم يفسد تعاقدا ولا هدّد أمنا ولا أجاع بطنًا.. لذلك يدفع الثمن غاليا في زمان هو أجدر بأن يُكرَّمَ فيه.
لست أخشى على الغنوشي، أظنّه أدّى الذي عليه وأتمّ المهمّة التي عاش لأجلها في انتظار حسن الختام، إنّما خشيتي من أن يدفع ولدايَ فاتورة ظلم دولتهما لمواطنين أبرياء لم يضرّوا من الناس أحدا.. هذا الظلمَ العاريَ أخشى على أبنائنا من بعدنا.

أيّها الغنوشي
كلّ عام وآن وأنت بخير.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock