السجين ..

توفيق رمضان
هي الليلة الأخيرة له في هذه الغرفة المكتظة بالمساجين.. غدا يكون خارجها.. لقد اشتاق الى الشارع والزحام.. الى عربات الكسكروت وأصوات الباعة في الصباح… الى ضجيج المقاهي والنرجيلة في ليل رمضان.. الى شجار الأطفال ولعبهم الكرة في الزقاق..
يسأل نفسه ترى كيف سأجد الحي بعد هذه السنين الطوال ؟… عشرون سنة مرت بأيامها ولياليها.. بشتائها وصيفها، خريفها وربيعها.. عشرون سنة وهو يكتب ويخط.. سيخرج من هذه الغرفة ومعه عشرات الكراريس التي خففت عليه وحشة السجن والابتعاد عن الصحب والاحبة والعائلة.
كان يحب الرسم.. ويحلم بأن يكون رساما بارعا تجوب لوحاته العالم والمعارض.. لكنه الآن فقد القدرة على مسك الريشة أو فقد المزاج.. لم يعد يحسن التعامل مع الألوان.. رفيقه قلم اسود يخط به نصوصا في المناسبات.. في الأعياد ورأس السنة وعيد ميلاده.. في عيد الأمهات والآباء.. لا يستطيع الكتابة أيام الأعياد الوطنية، لا يعلم لماذا يجف حرفه أيامها..عشرون سنة وهو ينتظر اليوم الذي يترك فيه باب السجن وراء ظهره.. لكن الخوف يتملكه.. كيف سينظر إليه أهل الحي ؟ هل سيقبلون التعامل مع قاتل ؟ هل يفرون منه أم يجلسون إليه؟..
يلتفت إليه العم صالح زعيم المساجين واقدمهم.. وكانه سمع ما يطرحه من أسئلة.. لا تخف يا بني.. ستجد من يهرب منك ويتحاشاك ويرفضك.. لكن ثق ستجد من يحترمك ويحبك ويتقرب منك.. وربما ستلقى من يخافك وهو كذلك سيتقرب منك.. العيب ليس فيهم بل فيك.. قد لا تستطيع التأقلم مع حياتك الجديدة.. لقد تعودت على الحياة هنا.. أتمنى أن لا تعود إلينا بعد أيام.. قد تكون الحياة هنا أوسع رغم ضيقها.. قد تختنق في الخارج يا بني.. احرص على أن لا يكون خروجك من سجن أصغر الى سجن اكبر.. إياك أن تجعلهم يشفقون عليك.. البشر صنفان عندك، يحبك أو يخافك.. لست الوحيد القاتل خارج السجن.. أغلب القتلة خارجه.. أنت أفضل منهم لأنك نلت الجزاء.. يعانق العم صالح ويرتمي في حضنه يبكي.. لم يكن يظن انه سيبكي في ليلة كهذه.. لم يكن يعلم أنه ارتبط بالمكان الى هذا الحد.. أصبحت له فيه ذكريات.. الأمكنة ليست سوى ذكريات عشناها فيها.. ضحك طويلا وبكى كثيرا طيلة هذه السنوات.. قد كتب كل شيء في كراريسه.. تفاصيل التفاصيل دوّنها باليوم والشهر والسنة والساعة والمناسبة.
لن ينام هذه الليلة.. يأخذ حقيبته يضع فيها بعض القمصان والسراويل ويمنح بعضها لزملائه في الغرفة.. يريد أن يترك لهم شيئا منه يذكرونه به.. أو انه يترك قليلاً من ريحه في المكان.. لا يريد أن يغادره كليا.. يحرص فقط على الكراريس.. يلمسها برفق ويضعها في الحقيبة.. ثم يخرجها ليعيد عدّها وليتثبت انه لم يترك واحدة.. ينظر الى نفسه في المرآة.. هل يحلق لحيته أم يتركها كما هي.. طويلة كثة…
يسأله فوزي.. أي وجبة ستطلب من الوالدة في أول يوم لك معها ؟.. هل ستقضي يومك نائما ؟ أول مكان ستقصده بعد خروجك من هنا ؟.
يلتفت العم صالح لفوزي.. لا ترهقه بالأسئلة.. هو يطرح اكثر منها بكثير..
يناوله فوزي سيجارة.. زرنا يا محمد.. أتمنى أن لا تنسى السجن والغرفة.
يبكي محمد كما لم يبك من قبل.. اكثر حتى من بكائه يوم نطق الحكم في المحكمة.. اكثر حتى من بكائه عند عودته الى الغرفة إثر زيارات امه له..