مقالات

التصفيقُ للعنف وإدارةُ العنف…

بشير العبيدي‎ 

🚶‍♂️#أقولها وأمضي
👀 العنفُ سمة ملازمة للمجتمعات البشرية منذ ظهورها. وهو من بين أسباب التغييرات الكبرى التي تحدث في التاريخ. ولعل قصة ابنيْ آدم في القرآن الكريم خير مثال على ذلك. وليس يلزم من وجود العنف أصالة في المجتمعات البشرية القبول به على أية حال، والخضوع لمنطقه كما اتفق، بل الواجب هو التمييز بين أصنافه لكي لا تدور الدائرة على المظلومين وضعفاء التفكير دوما.

لأنه ثمة لبس شديد عند الناس في فهم الفرق الجوهري بين التصفيق للعنف وإدارة العنف. ويعتقد بعضهم أن العنف هو “استخدام القوة”، بينما يختلف العنف عن القوة اختلافا كبيرا (كتبت سابقا في الفرق بين العنف والقوة الرابط). ولأن هذا الموضوع يحتاج تفصيلا كثيرا، نظرا لارتباطه بمجالات متداخلة ومعقدة مثل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الجريمة وعلم السياسة وغير ذلك، أكتفي ههنا بموجز.

💠 عند تفجر العنف في المجتمعات، تكون سلاسل الأسباب عادة في آخر حلقاتها، أي أن انفجار العنف يكون بشرارة بعد أن تكون مكونات الانفجار قد “نضجت” بما يكفي للاشتعال. وفهم هذا التسلسل مهم للغاية، لأن الذي لا يدرك “مكونات” العنف الأصلية وروافد العنف المختلفة، سيكتشف سريعا أنه ربما كان “يصفّق” لحتفه دون أن يشعر، لأنه لا يدري مَنْ ضد مَنْ، ولماذا!

💠 بعد تفجّر العنف، يكون المستفيد الأكبر من هذا العنف هو من له القدرة في التحكم في مجريات العنف. والتحكم في العنف لا يعني أبدًا اتخاذ قرار الأعمال العنيفة مثل الحرق والتخريب وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة وضرب المرافق ذات الرمزية للسلطة الحاكمة. بل التحكم في العنف هو تلك القدرة السياسية الفائقة وذلك الدهاء الخارق الذي يحوّل بكل “احترافية” هذا العنف الأهوج لفائدة المتحكم عن طريق توظيفه واستثماره في الإعلام والسياسة و”تثمينه” لزيادة منسوب “الخوف” داخل المجتمعات مما يجعلها ترتمي تلقائيا وغرائزيا في حضن “المتحكم”. فالمجتمعات تتم السيطرة عليها عن طريق “الخوف” و”الجوع” (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف – قرآن كريم)…

💠 المجموعات التي “تنجز” العنف عمليا، أي تقوم بإتلاف المرافق وحرق المقرات والسيارات وتخريب الممتلكات، تكون عادة متضاربة الأهواء ومتناقضة الأهداف، وهي تقوم بالعنف لا لأجل استثماره وتوظيفه في معركة أكبر، بل لأجل “التنفيس الغرائزي” الصرف، أو نهب المال، أو نهب الممتلكات، أو الاغتصاب، وهي كلها أعمال هستيرية منفلتة لا تتفق إطلاقا مع منطق التحكم والإدارة والإشراف، بل هي ضمن منطق ردّ الفعل العكسي، وهنا يسهل اصطيادها من لدن الجهة المقابلة التي تعرف كيف تدير العنف.

وهكذا، حيال كلّ مشهد عنيف، ينبغي البحث عن الجهة التي “تتحكم في استثمار العنف”، بطريقة منظمة وببرودة أعصاب مع قدرة على المراوغة وتضخيم أشياء وتصغير أشياء بما يتفق مع أساسيات إدارة العنف بشكل محترف. وقد تقع أخطاء هنا وهناك، لكن المتحكم في إدارة العنف هو الذي ينتصر حتى لو كان ضعيف الحجة ومتورّطا في العنف المضاد بأشواط.
والمتسرعون للتصفيق للعنف لا يهتمون عادة بقراءة التجارب التاريخية، وإلا فكتب التاريخ القديم والحديث تعج بالأمثلة!

💠 من ذلك أذكر: حروب الكفاح ضد الاستعمار المباشر. لقد استطاعت الشعوب تخليص نفسها من المستعمرين عن طريق منظمات فعالة أدارت العنف بشكل مقتدر ضد المستعمر، رغم بساطة الوسائل. فلما اقتنع المستعمرون بأن مواجهة العنف المنظم لحركات التحرر غير ممكنة، تم اللجوء لأسلوب التحكم في العنف واستطاعوا استمالة عدد من الزعماء لصفهم، وتحييد الرافضين أو إزالتهم جسديا، ثم تم العمل لفترة طويلة على هؤلاء الزعماء حتى ضمنوا استمرارية الاستعمار غير المباشر، وأمنوا مصالحهم الاستعمارية عن طريق أناس كانوا يخطبون في شعوبهم ويرفعون لواء الوطنية، بينما حقيقتهم كانت مجرد دمى تنفذ إرادة المتحكم.

💠 ومن ذلك أذكر: منظمات مثل القاعدة وداعش ومن لفّ لفها، كان عدد من الدهاة ومعهم عدد لا يعلمه إلا الله من “السذّج” والجهلة يروجون لهذه المنظمات ويجمعون لها المال والرجال والسلاح… وتبعها الألوف المؤلفة من جميع أنحاء العالم. والحقيقة أن الذي كان يدير هذا العنف باقتدار من وراء البحار هو الذي استطاع توظيف هذه المنظمات للعودة للاستعمار المباشر لأجل تأمين موارد الطاقة، وقد أسدت هذه المنظمات خدمات جليلة لنفس الجهات الاستعمارية التي تدعي محاربتها، ثم قامت الطائرات والمسيرات بطحن الشباب الذين تجمعوا خلف هؤلاء القادة المزيفين. والآن انتهى تقريبا دور هذه المنظمات التي لا تعرف إدارة العنف، وتعرف فقط إنجازه، ولا يُعرف حتى اليوم ما الذي جرى على وجه التحديد؟ وكل ما نعرفه هو هذه النتيجة: أنه تم تدمير نصف البلاد العربية عن طريق هذه المجموعات، وتم إعادة الاستعمار المباشر عن طريق التحكم في عنفهم ببراعة فائقة!

💠 ولقد انتبه القائد الكبير نلسون مانديلا لهذا الأمر في وقت مبكر، واستطاع إدارة مسألة العنف باقتدار حتى أنهك بعمله الدؤوب أعتى أنواع الاستخراب وأنهى أحلك حقبة من التمييز العنصري في بلاده!

💠 ومازلت أتذكر تعليقات بعض هؤلاء الذين يثير وعيهم السياسي الشفقة، حين كانوا يكتبون بأسلوب الكبر والغطرسة، في صفحات التواصل الاجتماعي، ينشرون كلاما عجيبا ينمّ عن غفلة وجهل مطبق بفنون إدارة المعارك، وذهب ضحيتهم ألوف الألوف من الشباب في عمر الزهور، لم تستفد منهم المجتمعات البشرية في شيء عدا تجربة المتفجرات الفتاكة في أجسادهم الغضة الناعمة.

والخلاصة: إذا لم يكن للمصفقين للعنف أي وسيلة للتحكم والإشراف والتوجيه لمجرياته، فأحرى أن يتركوا التصفيق اليوم لأن تصفيقهم يعود بالوبال على من يعتقدون نصرتهم.
أتعرف كيف تدير العنف يا أخي؟ لا تعرف؟ فالمسألة لها وجهان: إما أن تستجمع القدرة كي تدير العنف باقتدار ودهاء… وإما أن تتوقف عن التصفيق له وأنت مرتخٍ على أريكتك وتشرب كوكاكولا منعشة وتخربش على شاشة هاتفك الأمريكي أو الكوري أو الصيني، أو حاسوبك الياباني، وتنشر لدعم عنف لا ناقة لك فيه ولا جمل!

والتاريخ نظر وتحقيق وعبرة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
📝 #بشير العبيدي | ذو الحجة 1444 هجرية
🎼 كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا
🔬لقراءة المنشورات السابقة في هذا الباب، يرجى النقر على الوسم التالي 👈 #أقولها وأمضي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock