الباكالوريا: ..وكَرّة أُخرى، حَفظة القرآن في الصّدارة
سليم حكيمي
لا ريب أن حفظ القرآن شرط النَّجاح في المدارس القرآنية. ولكن كما يعلي الفن من قيمة الذوق والجمال، يُعلي التديّن من قيمة الالتزام والمثابرة وتعليم اليافعين واجبات الرَّجال.
ورغم أنّ تونس الأضعف عربيا في ارتياد الشباب المساجد، يبُاغت حفظة القران كرة أخرى، ليتبين أن بيوت السكينة الأسرية بسُور الإيمان والتديّن الصحيح هي معاقل النصر وليست موائل الخُسر. سابقا، حصد التلميذ “أحمد قلالة” التألق كلّه بمعدل 20.15 منذ سنة، وأعاد الفَينة “عبد الرحمان بن حميدان” بمعدل 19.75، و”مهتدى بشطبحي “إمام التراويح، الأول وطنيا في شعبة التقنية بـ 19.61. ومن العيب أن يتسامع الناس بنتائج المتفوقين، ويغفل الإعلام علاقتهم بالقرآن وكأنها وصم ونقيصة. بيد أن الغاية من تجاهلها هو الفصل بين المعرفة بالعلم والوعي بسمو الدّين، ولا يكون إلا بمنع الناس من التساؤل عن شروط التفوق، بما فيها التدين في أسر محافظة يتأفَّفون منها في أعمالهم التلفزية التدميرية. ويعيدهم التفوق الى تلازم القيمة والمعرفة شرطا للنجاح والفَلاَح. في قسمة ضيزى اعتبروا التزامن بين العلمانية والتطور في الغرب تلازما، ولكنهم تفانوا في الفصل بين الالتزام الديني والنجاح الدراسي. فالمدرسة للمعرفة والأسرة للتربية بينما قامت علمنة التعليم على الفصل بينهما.
الباكالوريا دواء لسُموم خُرافتين: فِرية الالتزام الديني وعدم التفوق الدراسي، وسَفاهة التناصف الأفقي والعمودي شرطا للمساواة، حيث تتفوق الفتيات على الفتيان، بنظام الجدارة وليس بغيره، بنسبة تزيد على 60%. لا يَعلو كَعْب على الأبناء في قُلوب الآباء، ودون وصاية نخبة فاسدة تفرض المتلازمات الهدّامة بين القران والتطرف، والحداثة والتحلل من التدين، والسياسة بلا أخلاق، والكفاءة بلا أمانة، والفن بلا ستر… يفرض الأنام معاييرهم، فتعيش إسلامك بحداثتك وحداثتك بإسلامك.
ليست المرة الأولى التي يعتم فيها الإعلام على صفوة الباكالوريا بسبب تربيتهم المحافظة مثلما عتّم على حمدة القفصي صاحب 19.50 سنة 2019. صحافة تملك الحد الأدنى من الاحترام، تستضيف الجواهر القادرين على تغيير واقع الناس، لنعرف الفروق بين الموهبة والتفوّق، وبأية حِراب علمية نَنْفي التخلَّف كما ينفي الكيرُ خَبَث الحديد. تكرم المتفوقين ومدرّسيهم وتستفسر عن سر نجاحهم لنبدأ خطوات القدوة، وتكرم أهلهم الذين ارتَخصوا كل غال واحتقروا كل نفيس في جَنب الغاية، وتستضيف الرّاسبين المهنّئين لزملائهم لنبني مجتمعا غير محترب، يقوم على العلم والأخلاق والدراسة والتكوين واحترام الرُّتب والمقام.
يحفل الإعلام بشخصيات “مْدوبلة في الرّوضة” ويتجاهل الجواهر لسببين: أولهما أن العلم ليس رهان الدولة، وثانيهما انهم نسْل من غير صُلب ثقافة التفكك والاحتراب بين الرجل والمرأة التي يبشر بها في أولاد مفيدة” و “الجبل لحمر” “أولاد شحيبر” و”عندي منَفضحك”. فطبيعة الأسر التي أنجبت هؤلاء عائلات محافظة تتفوق على الدّولة في استثمار العلم.
العلم رهان الأسرة وليس الدولة. صرّح “طه حسين” حين زارنا: “لم أر في العالم العربي مثل هَوس الأسرة التونسية بالعلم”. ولكن لماذا تخلّفنا ونحن الذين نملك “الزيتونة” اقدم جامعة في العالم الإسلامي؟ والجواب، أنه لا قيمة للتفوق في أنظمة الاستبداد لأنها تشترط الولاء وليس الكفاءة.. أجيال تَتْرى تلقط شُذور العلم لتضعها تحت تصرّف الجهلة، ليسلَّمها للغرب. وهي جناية نخبة، بل طغمة دولة الاستغلال التي منعت تجسّد العلم في نهضة حضارية، وفصلت بين العلوم الطبيعية والإنسانية، بينما الحداثة أن يكون العالِم سُلطانا والسّلطان عالِما.
“تعلم العلم وانا أكفيك بمغزلي” عبارة لأم “سفيان الثّوري” التي إرادته فقيها وعالما فغزلت الصّوف. لم يكن مشهدا حبيس الماضي بل متجددا. والدتي ربّة بيت، أضناني يوم رأيت مكتوبا في بطاقة تعريفها المهنة: لا شيء. وهي التي أفنت عمرها في خدمتنا. والحصيلة أننا إزاء دولة غائرة التخلف لا تعرف شخوص القيمة وتعتبر تربية النشء على رزق من كسب اليد وعرق الجبين، أو الحصول على معدل 19 من 20 في الباكالوريا لا شيء. الأبوان احدهما لليسر وآخر للعُسر، حين يتقدمان عُمرا يعوّضان الجمال بالرّوح، والحبّ بالصداقة، والشّباب بالصّفح، والحزم بطلاقة المُحيا. ولا شيء غير البرّ والنجاح لهما بلسَما ومَغْنما.
صحفي من تونس