تدوينات تونسية

حتى بلغ عددها أربعة عشر غارة

عبد القادر الونيسي

في مثل هذه الأيام من التسعينات كنت قد غادرت البيت وأصبحت مطاردا وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت.
يترصدني البوليس في كل مكان ويشن الغارة تلو الغارة على البيت مع ما يصاحبها من ترويع وتعنيف حتى بلغ عددها أربعة عشر غارة بالتمام والكمال.
أغلب الإخوة في السجن فمن سيأويكم وأنتم المطارد بجحافل من البوليس والشعبة والعمدة وعيون لا تنام.

يفتح الله لك بابا من حيث لا تحتسب.
المكان الذي أنا فيه لم يعد آمنا بالقدر الكافي وحتى لا أسبب ضرراً لا قدر الله لصاحبه إخترت أن أغادر ولو بت في المقابر أو في الغابات.
إتصل أحد إخواني بزميل لي وطلب منه إيوائي لأيام قليلة حتى يجعل الله من أمري يسرا.
زميلي هذا الرجولة في أبهى معانيها ،أصيل مدينة القيروان.كان في دراسته الجامعية يساريا ثم أصبح إسلاميا وخيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام إذا فقهوا.
أخي هذا فقه معاني الإسلام وإرتبطنا بعلاقة ربانية مازالت ناصعة ساطعة نقية إلى يوم الناس هذا.
وافق دون تردد فإنتقلت إلى بيته في إحدى ضواحي العاصمة والذي يسكنه مع زوجته وولديه.
لن أوفي زوجة أخي المرأة الفاضلة حقها من الثناء على كرمها وشجاعتها وسمو أخلاقها.
كنا في تلك الأيام الحارقة نصوم النهار ونقيم الليل تقربا إلى ربنا وحتى نطرد الخوف ونلج إلى حمى الستار الذي لا تضيع ودائعه.

كان أكثر ما يعذبني في تلك الأيام هو أن أكون سببا في إيذاء من يأويني لأنه إذا وصل إلي البوليس عنده فستكون عاقبته مثل عاقبتي التي إخترتها ولم يختره هو ولكن لله رجال في كل زمان ومكان.
عندما علم أني دائم الصوم طلب من زوجته الموظفة أن تعود يوميا مبكرا لتعد لي الفطور والذي طلبت منه ملحا أن لا يفعل مما إضطرني إلى التظاهر بالإفطار بعد أن عجزت عن إقناعه.
طرائف عديدة عند زيارة بعض أقاربه وإتفاقنا كل مرة على سيناريو معين حتى لا يجلب حضوري في البيت شكوكهم وكل مرة بفضل الله تسلم الجرة.

أقمت عنده ما شاء الله أن أقيم معززا مكرما وكان العين التي أرى بها والأذن التي أسمع بها ما يدور في الخارج وقد رأيت في صحبته أخلاق من قرأنا عنهم في سير الصالحين.
حرصت بعد الثورة أن تكون زيارتي الأولى له وكان لقاء إختلط فيه الفرح بالشجن بالمحبة بالإخوة الخالصة لله.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock