مقالات

في الذكرى الأولى “لمجزرة” 1 جوان القضائية: من العزل إلى الملاحقة الجنائية

عبد السلام الككلي

تنفذ جمعية القضاة التونسيين وهيئة الدفاع عن القضاة المعفيين اليوم 1 جوان 2023 وقفة احتجاجية أمام قصر العدالة بتونس بداية من الساعة الحادية عشر صباحا بمناسبة الذكرى الأولى ل » مجزرة الاعفاءات الظالمة » التي طالت 57 قاضيا وقاضية يوم 1 جوان 2022 . ودعت الجمعية كل القضاة العدليين والإداريين والماليين للحضور بالزي القضائي وكل مكونات المجتمع المدني المستقلة والعائلة القضائية والحقوقية المؤمنة والمدافعة عن استقلال القضاء ودولة القانون للمشاركة في الوقفة ليلة «المجزرة».

وقفة احتجاجية أمام قصر العدالة بتونس
وقفة احتجاجية أمام قصر العدالة بتونس

من من القضاة ومن غيرهم ممن يهتمون بالشأن القضائي والحقوقي والسياسي بإمكانه ان ينسى وقائع تلك الليلة المشهودة ؟ ليلتها تحدث رئيس الجمهورية في مجلس وزراء انعقد للغرض وكان حديثه متبوعا في تلك اللية نفسها بصدور، أمـر رئاسي عدد 516 لسنة 2022 مؤرخ في 1 جوان 2022، مع التنصيص على النفاذ الفوري، يتعلـق بإعفاء قضاة، وتضمنت قائمة القضاة المعفيين بمقتضى هذا الأمر، 57 قاضيا ، .
وجاء هذا الأمر متزامنا في نفس اللية مع صدور، المرسوم عدد 35 لسنة 2022 المؤرخ في 1 جوان 2022، والمتعلّق بإتمام المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المؤرخ في 12 فيفري 2022 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، والذي أضيفت إلى فصله الـ 20، الأحكام التالية: «لرئيس الجمهورية، في صورة التأكد أو المساس بالأمن العام أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخولة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كل قاض تعلّق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره.

وجاءت هذه «المجزرة» بعد أن اعد لها رئيس الجمهورية لمدة أشهر بخطاب دأب عليه ولا يزال حول التطهير وحول تقسيم القضاة إلى شرفاء وآخرين يجب أن يكونوا محل محاسبة ..وهو الاستقطاب الذي يحكم كل خطب الرئيس والذي يقسم البلاد جميعها إلى وطنيين صادقين وخونة، إلى مدافعين عن مصالح الشعب ومن نكلوا به. فتلك من طبائع الخطاب الشعبوي يلقي إلى الجموع فاكهة الشعبويين جاهزة للاستهلاك وخاصّة من تلك الفئات غير المؤهّلة بحكم فقر زادها المعرفي لفهم طبيعته والوقوف عند ولوعه بالثنائية فهو غير منشغل بفهم الواقع والبحث عن حلول للمشاكل المتراكمة والمعقدة. إذ دأب قيس سعيد منذ وصوله إلى السلطة على ممارسة هذا النوع من الخطاب والذي يجد أفضل تعبير له من خلال التخويف من المختلفين عنه الذين ما أنفك يشير إليهم بضمير الجمع الغائب «هم» دون أن يحيل الضمير على شخص أو أشخاص محددين بل إلى كتلة غامضة مبهمة يمكن أن تحشر فيها من تشاء إذ المقصود ليس تحديد المستهدف من الخطاب بقدر ما يهدف إلى خلق حالة من الخوف من كل من يختلفون مع الرئيس المنقذ والملهم.

القضاة المعفيون بين سلطة القانون و «قانون» السلطة

عقب المجزرة طعن القضاة في قرارات الإعفاء التي قبلت من المحكمة الإدارية بالرغم من أنها كانت بحسب المرسوم عدد 35 غير قابلة للطعن ولعل المحكمة فبلت النظر في الطعون بعد إعطاء قيس سعيد نفسه الإذن بذلك في تصريح بمناسبة توديع الحجاج في مطار تونس قرطاج السنة الماضية اعتبر فيه أن قرارات الإعفاء قابلة للطعن الإداري.

وأصدرت المحكمة الإدارية قرارها في 10 أوت 2022. فأذنت بتوقيف تنفيذ 49 من أوامر العزل الفردية.

ومنذ ذلك التاريخ امتنعت وزارة العدل عن تنفيذ قرار المحكمة الادارية كما امتنع المجلس الاعلى للقضاء المؤقت عن فتح باب الشغورات في المناصب التي كان يشغلها القضاة المعزولون. وفهم الأمر من قبل القضاة والرأي العام المتابع بان المجلس يبدي نوعا من المقاومة اتضحت أكثر بعد قرارات المحكمة الإدارية اذ ظل المجلس متشبثا بعدم اعتبار المراكز التي كان يشغلها المعفيون مراكز شاغرة تفتح لتناظر القضاة. غير أن بعض المصادر المقربة من التنسيقيات أو بعض المحامين الموالين لرئيس الجمهورية (معلوماتهم ليست دائما دقيقة) أشارت بان المجلس المؤقت تراجع عن ذلك إرضاء للرئيس واقترح عليه حلا وسطا يتمثل في إعادة إدماج المعفيين ولكن نقلتهم إلى مراكز عمل غير مراكز العمل التي كانوا يشغلونها قبل إعفائهم وبناء على هذا تحدث البعض عن وجود الحركة التي أعدها المجلس إلى الآن بين يدي الرئيس ويزعم البعض الأخر أن قيس سعيد رفض الحركة التي أعدها المجلس وأرجعها إليه وذلك بسبب إعادة المعفيين إلى عملهم وهو أمر رفضه رئيس الجمهورية.

ويبدو أن الحركة كانت على وشك الصدور قبل 6 سبتمبر الماضي ولكن تأجل الأمر لسبب غير معلوم على وجه الدقة إذ وقع إعلام الملحقين القضائيين بأنهم سيؤدون اليمين يوم الأربعاء 6 سبتمبر الماضي ولكن موعد اليمين تأجل في آخر لحظة لسبب يتعلق على الأرجح بالخلافات الطارئة حول تفاصيل الحركة وخاصة في ما يتعلق بالمعفيين إذ كان هؤلاء يمثلون معضلتها الأكبر التي لا احد يعلم الى اليوم كيف سيقع تجاوزها.

وفي مواجهة موقف المجلس الأعلى للقضاء المؤقت لجأت السلطة في الأيام الأخيرة الى الفصل 14 من قانون 1967 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء والقضاة الذي ينص على انه «ينظر المجلس الأعلى للقضاء في نقلة القضاة الجالسين قبل بداية العطلة القضائيّة من كلّ سنة. لوزير العدل خلال السّنة القضائيّة أن يأذن بنقلة قاض لمصلحة العمل ويعرض الأمر على المجلس الأعلى للقضاء في أوّل اجتماع له. ويكون القضاة الجالسون تحت إدارة رئـيس المحكمة التّابعين لها». ولا يعرف الرأي العام إلى حد الآن تفاصيل دقيقة عن هذه الحركة وعن مداها ولكن تسريبات كثيرة واحيانا متضاربة تشير إلى أنها مست المناصب التي كان يشغلها القضاة المعفيون. وفسر هذا الالتجاء الى قانون 1967 المخالف تماما للمعايير الدولية التي ترفض تدخل السلطة التنفيذية في نقلة القضاة لما لذلك من مساس باستقلاليتهم على انه حل وقتي لمسألة الشغورات الناتجة عن إعفاء القضاة في انتظار بت المجلس الأعلى القضاء فيها بحسب ما يقرره القانون. ويعتبر البعض من الموالين للسلطة أن وزيرة العدل استجابت للطلبات الملحة لسد هذه الشغورات التي أثرت على السير العادي للمحاكم. ومن المرجح أن هذه التسميات الجديدة لا صلة لها بالزعم القائل إن الأمر يتعلق بمجابهة الخلل الحاصل في سير عمل القضاء جراء الشغور في بعض المناصب ومنها أساسا وكالات الجمهورية في اكثر من ولاية. لان الأمر جاء متأخرا جدا إذ لم يتبق من السنة القضائية غير شهر ونيف. ومن شبه الأكيد أن الوضعية التي تحدثنا عنها من مقاومة المجلس الأعلى للقضاة لرغبات السلطة التنفيذية في ما يخص الحركة القضائية المتعطلة دفعت وزيرة العدل ومن ورائها رئيس الجمهورية إلى استباق الحركة القضائية القادمة التي قد تعرف نفس الإشكال هذه السنة أيضا. هل يكون المقصود بهذه التسميات وضع مجلس القضاء أمام الأمر المقضي فمن بإمكانه أن يتصور أن المجلس سيراجع هذه التعيينات وأن يوقف عجلة قطار يسير بسرعة جنونية وفق رغبات السلطة وأغراضها دون رقيب ولا حسيب ويأخذ في طريقه كل مقاومة مهما كان حجمها؟

مزيد التنكيل بالقضاة المعزولين

لم تكتف السلطة بإعفاء 57 قاضيا بجرة قلم وامتناعها عن تنفيذ قرارات المحكمة في سابقة خطيرة لم تعرفها البلاد في تاريخها إذ أن السلطة كانت استجابت سابقا إلى كل قرارات المحكمة الإدارية الصادرة في حق القضاة الذين وقع إعفاؤهم أيام وزارة نورالدين البحيري وعاد اغلبهم الى القضاء فعلا. لم تكتف السلطة الحالية بإعفاء القضاة بل حركت ضدهم الملاحقة الجنائية بموجب أحكام مرسوم العزل نفسه الذي ينص على انه لا يجوز للقضاة الطعن في إعفائهم إلا بعد أن تصدر المحاكم حكمًا باتا في قضاياهم الجنائية. ويؤدي تحريك الدعاوى الجنائية تلقائيًا ضد القضاة على هذه الأساس ودون المرور بالنيابة العامة إلى خلط بين ما هو إداري تأديبي وما هو جنائي. وبذلك، يخرج المرسوم تعسفيًا عن الإجراءات الجزائية وينتهك مبدأ المساواة أمام القانون وفي الحصول على حمايته.

كذلك، لا يمتثل المرسوم لمبدأ الشرعية، وهو مبدأ عام أساسي للقانون والقانون الدولي لحقوق الإنسان كما بينه كثير من المنظمات الحقوقية. ويرجع ذلك «إلى أن الأسس المُرتَكَز عليها لإخضاع قاضٍ للملاحقة الجنائية يتم تحديدها بعبارات عامة غامضة، مما يجعل من المستحيل على القضاة تمييز السلوك الذي قد يُصنّف كجريمة جنائية ويسمح للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراءات تعسفية».

وفعلا وتنفيذا لمقتضيات المرسوم شرعت السلطة في ملاحقة كثير من القضاة المعفيين بتهم لها صلة بالإرهاب وبالفساد المالي أو الأخلاقي ومنهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنتخب. وفي أخر حلقة من حلقات هذا المسلسل الرهيب مثل 13 من القضاة المعفيين يوم 30 ماي أمام المجلس الأعلى للقضاء المؤقت لرفع الحصانة عنهم استعداد لمثولهم أمام حاكم التحقيق إذ انهم امتنعوا سابقا عن الإجابة عن أسئلة المحقق تشبثا منهم بالحصانة على اعتبار انهم عادوا الى مباشرة القضاة اثر أحكام المحكمة الإدارية وهي أحكام باتة غير قابلة للطعن وقد حجزت 3 ملفات للتصريح بالحكم يوم 30 جوان واجل النظر في بقية الملفات الى نفس التاريخ.

لا هو قاض ولا غير قاض: في المنزلة التي لا وصف لها

وبقطع النظر عن هذه الوضعية السريالية التي يعيشها هؤلاء القضاة فهم قضاة مباشرون بحكم القانون وهم معزولون بحكم تعسف السلطة فلا احد يدري ما الذي ينتظرهم إذ انه من الواضح أن السلطة ليس أمامها غير الهروب إلى الأمام ومزيد ملاحقة هؤلاء القضاة وإذلالهم وربما أكثر من ذلك إذ أنها لم تعد تملك في هذا الوضع الكارثي الذي يعيشه القضاء بحسب توصيف رئيس الاتحاد الدولي للقضاة إبان زيارته الأخيرة في ماي 2023 الى تونس بمناسبة ندوة دولية التأمت حول استقلال القضاء وتعيشه تونس سياسيا واقتصاديا وفي ظل إحكام قبضتها على مصير البلاد ومصادرتها لكل نفس حر وفي ظل تحريك الآلة القضائية ضد المعارضين السياسيين وضد الصحافيين المستقلين وحتى ضد عامة الناس من المدونين ومن الشباب غير مزيد التخويف والترهيب إرضاء لهذه العواطف من الانتقام والشماتة والحقد التي زرعها النظام في نفوس كثير من التونسيين وغذاها من اجل التلهية عند فشله وأخطائه.

غير أن ما يبعث على الأمل هو أن القضية ظلت حية ولعلها ستظل كذلك الى أن يجد الحق سبيله في هذه العتمة إذ ما فتئت الجمعيات التونسية ذات الصلة بالمسألة القضائية كجمعية القضاة والمنظمات القضائية الدولية وعلى راسها الاتحاد الدولي للقضاة والمنظمات الحقوقية مثل أمنستي وهيومن رايتس واتش واتحاد القانونيين الدوليين وغيرها كثير تطالب كلها بوضع حد لهذه المأساة التي يعيشها مجموعة من القضاة كان كل جرمهم أنهم رفضوا تنفيذ التعليمات بحسب ما صرحوا به هم انفسهم في مناخ يعود بنا الى زمن خلنا أن البلاد تركته وراءها منذ الثورة زمن القضاء المدجن والقضاة مجرد موظفين في خدمة النظام والآلة القاسية التي تتسلط على كل نفس حر.

اسطرلاب

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock