تدوينات تونسية

مفارقة.. معارضوه وموالوه

نور الدين الغيلوفي

الذين انتخبوه فألجسوه على كرسيّ الرئاسة صاروا، الآن، معارضيه.
والذين رفضوه ولفظوه وانتخبوا خصمه هم اليوم موالوه.
يحلو له دوما، لتأكيد وطنيته، نفي الوطنية عن مخالفيه.. حتّى لقد أخرج جميع الذين لا يرون رأيه من دائرة وطنيته التي تضيق عليه في كلّ يوم، ذلك أنّ مناصريه ينحسرون ويتقلّص عددهم ولم يبق له غير عتاد الدولة يهدّد به الجميع ولا يستثني أحدا ليثبت كونه الوطنيّ الأخير… فلا وطنية، في فهمه، إلّا لمن كان تحت حراسة قوّة الدولة، والدولة لا تعني سوى شخصه.. الدولة هي الوطنية وحارسُها.
أيُّ الفريقين الوطنيُّ؟
الذين انتخبوه؟
أم الذين لم ينتخبوه؟

الذين انتخبوه هم، في منطقه، غير وطنيين. معنى ذلك أنّه صار رئيسا بفضل أصوات هؤلاء اللاوطنيين،
فهل يرضى ذلك لنفسه؟
أليس الذي يثري من مال مشبوه يكون من الفاسدين؟
أليست أصوات الناخبين هؤلاء مشبوهة مثل أموالهم؟
أم إنّهم غير وطنيين بينما أصواتهم وطنيّة؟

نأتي إلى الذين عارضوه، أوّل مرّة، ولمّا انفرد بقيادة السفينة قفزوا إليها واستظلّوا بظلّه، ألا يُعَدّ هؤلاء انتهازيين يهلّلون لكلّ ذي سلطان؟
أيّ الفريقين أكثر أمنا، الفريق الذي انتخبه لمّا كان “في غصرته”، وتصدّى له لمّا انقلب على تعاقداته ليردّه إلى الصواب أم ذاك الذي لا يرى صوابا إلّا في صفّ الحاكم بأمره؟

أظنّ أن مربّع السلطان أكثر إغراءً للمنافقين والانتهازيين والوصوليين.. وأظنّ أنّ كلّ ذي عقل يرى ذلك.
وحدهم أصحاب المبادئ هم أولاء الذين يقبضون على جمر المعارضة ولا يدورون مع رحى السلطان إذا اشتدّ بها الدوران.
المستبدّ الذي ينفرد بالرأي لا يمكن أن يكون وطنيا أبدا،
لأنّه لا وطنية إلّا بالديمقراطية.

ولا أمل في عدالة إلّا إذا تحررت الحريّة وصار المواطنون سواسية أمام قانون يسري على الجميع،
على الحاكم قبل المحكوم.

لسان الحال: (لست مستعدّا لتسليم وطني إلى من لا وطنيّة لهم)
أخطر عبارة يقولها حاكم.. فيها احتكار للوطنيّة ونفيها عن المخالفين الذين يرون ما لا يرى.
متى ركّب شريحة الوطنيّة؟
هل وُلدت وطنيته في زمن بورقيبة الحاكم الفرد؟
هل ظهرت في عهد بن علي الدكتاتور ؟
الظاهر أنّه وجد الوطن على الكرسيّ ولم يكن قد رآه من قبل.. شغلته عنه الخبزة “والخبزة مرّة” فلم ير، من قبل، ظلما ولا فسادا ولا عمالة… ومع حلاوة الكرسيّ نبت فيه الوطن فرأى ما تعذّرت عليه، من قبلُ، رؤيتُه.

الظاهر من خطابه أنّ الوطنية تولَد في الشخص حين يجلس على كرسيّ الحكم يتحكّم في كلّ المؤسسات ويحتكر جميع المرافق.. يأمر وينهى بعد أن كان مأمورا منهيًّا.. ولا وطنيّة لغير صاحب الأمر والنهي.
معنى قوله: أنا الوطنيّ الوحيد، لا قبلي ولا بعدي. ولن أتخلّى عن السلطة تحت أيّ عنوان.. وذلك هو معنى المسؤولية عنده.

الدستور الذي وصل به إلى سدّة الرئاسة أعدمه وسحق العقد الذي كان يربطه بالناخبين/ شركاء التعاقد، ولم يبق له بالتونسيين رابط غير كلام يفرّق فيه بين وطنيين مخلصين صادقين لا يراهم أحد سواه وبين خونة عملاء فاسدين هم كلّ الشعب.

حتّى الوطن لم يعد جامعا له مع أحد، فهو وطنه وحده، ذلك ما تعنيه عبارة (وطني)، والإضافة في التركيب تعني الملكيّة. الوطن صار لديه مملكة وهو ملكها ومالكها. والمسؤولية التي يتحدّث عنها لا تعني غير الحكم المطلق. سيظلّ قاعدا على الوطن/الكرسيّ ولن يكون تسليمٌ إلّا إلى وليّ للعهد سيمهّد له بنصّ يميز التعذّرَ من الشغور.. ووليّ العهد سيكون من الدائرة الضيّقة التي كانت أشبه بحزب سريّ ولا تزال.

ضمير المتكلّم المفرَد يزحف على شخصيته يوما بعد يوم.. ولو استمرّ به الحال قد نسمع منه يوما ما يساوي ادّعاء ألوهة تشرق بنوره على الكون.. أليس يردّد دوما أنّه يحمل حلول العالَمين؟
من قال، اليوم، الوطن وطني ولا وطن لكم.
سيقول، غدا، الكون كوني ولا كون لأحد غيري.

أدركوا الكون قبل قيامته.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock