مقالات

ألهذا استشهد الرجال ؟

توفيق رمضان

في مثل هذا اليوم من سنة 1938 خرج الآباء والأجداد في مظاهرتين. واحدة يقودها علي البلهوان انطلقت من الحلفاوين وأخرى يقودها المنجي سليم من رحبة الغنم. كان طلب التونسيين يومها برلمانا وطنيا يمثلهم ويعبر عنهم.

عبر التونسيون عن وعيهم العميق بالمؤسسات ودورها في تحقيق السيادة الوطنية وضمانها. واجه الاحتلال الفرنسي تحركهم ومطالبهم بالحديد والنار فسقط عديد الشهداء وسالت دماؤهم على الإسفلت راسمة نجمة وهلال وفاحت رائحة المسك من أجسادهم الطاهرة.

تعودنا الاحتفال في التاسع من أفريل من كل سنة بعيد الشهداء. تمرر الإذاعات والتلفزات بعضا من الأغاني الوطنية ويروون لك الحكاية نفسها. لم نسأل يوما ماذا قدمنا نحن للبلد بعد ما استشهد الأباء والأجداد ؟ ماذا قدمنا لهم مقابل ما قدموه لنا/من أجلنا (أرواحهم) ؟.

في كل مرة يحاصرني نفس السؤال. أتصورني في مقهى شعبي اجلس منفردا احتسي فنجانا من القهوة تأتيني رسالة على الميسنجر من احد شهداء الوطن الأبرار (مثلما حصل في مسرحية على نخبك يا وطن مع دريد لحام). يسألني كيف حال البلد من بعدنا ؟ هل رحلت فرنسا من غير رجعة ؟ هل طعم الحرية حلو ؟ هل أصدر البرلمان قوانينا تضمن للشعب سيادته وتعيد له أرضه ؟ هل تأكلون مما تزرعون وتلبسون مما تخيطون ؟ هل قتلتم كل الخونة والصبايحية ونال الفلاڨة حقهم ؟… عديدة هي الأسئلة لكنني لم اجد ما أقول وسبقتني دموعي ولم اكمل قراءة الرسالة. انتابني خجل شديد وأصابتني رعشة. ماذا أقول وماذا اكتب له ؟.

هل أقول نعم أمضينا وثيقة الاستقلال واصبحنا نحتفل به في العشرين من مارس من كل سنة. وان بورقيبة وحده من ناضل من أجله لذلك كان هو المجاهد الأكبر والزعيم الأوحد وأُطلق اسمه على الشوارع والساحات والمطارات والمستشفيات. ونقح الدستور ليكون رئيسا مدى الحياة بعدما تخلص من كل المعارضين فريقا قتل وفريق سجن والقوم يصفقون. بل صنعوا له التماثيل وزوروا التاريخ لأجله. وصار سيد الأسياد يتحكم في المواشي والعباد.

هل أقول أن فرنسا خرجت ولم تخرج. نعم غادر جنودها أرضنا الطاهرة لكن أثقلونا بالمعاهدات والاتفاقيات التي تجعلهم يذوقون «فال» غلتنا قبلنا ويحصلون على ملحنا ونفطنا برخص التراب (عفوا هي كلمة نقولها للدلالة على الثمن الزهيد). اعلم أن التراب غال عندكم.

أأقول انه ذات شتاء ثار الشعب من اجل الرغيف نعم بعد الترفيع في سعر الخبز. وسقطت أرواح من خيرة الشباب خرج بعدها الزعيم الهمام وقال «نرجعو وين كنا».

هل أقول جاء من بعده من زاد في بيع البلد والتضييق على الناس فأحصى علينا أنفاسنا وصار البلد من بنزرت لبرج الخضراء سجنا كبيرا. انقلب صناع تماثيل الزعيم الى مسبحين بحمد صانع التغيير. واصبحنا نرفع التحديات مع العقل في زمن العاصفة. العقل الذي وزع البلد على العائلة والأصهار وأصبحنا خدما عندهم. فضاع التعليم العمومي والصحة العمومية وعمل النظام على خلق جيل مهمش تافه يضرب بعضه البعض من اجل ضربة جزاء مهدورة أو صافرة حكم منحاز. حتى الرياضة افسدوها يا سيدي.

هل أقول أن شباب تونس ثار كعادته في جانفي شهر الثورات سنة 2011. ثورة سبقتها انتفاضة في 2008 التي احكم النظام تطويقها لكنه لم يقتلعها. لذلك غرس احدهم فسيلة الثورة في غفلة من البوليس و«الصبابة» فآتت أكلها بعد ثلاث سنوات. وهرب الغول وديست صوره بالنعال في الساحات وأصبح الانتماء الى التجمع تهمة وسب التجمعيون بن علي وقالوا إنا بورقيبيون. فرحنا بالثورة وغنينا النشيد الرسمي وقبلنا النجمة والهلال وقلنا ها قد عاد البلد الى أصحابه. وذهبنا الى الانتخاب وعرفنا ستة رؤساء للدولة واكثر من ذلك رؤساء للحكومات. آه نسيت أن أقول أننا اخترنا نظاما برلمانيا معدلا في المجلس التأسيسي.

هل أقول أن الوقت أضعناه في نقاشات خلنا أننا تجاوزناها. رجعنا الى دفاترنا القديمة فهذا ينادي بالخلافة وتعدد الزوجات وتطبيق الحدود. وان ما اهلكنا إلا الابتعاد عن الإسلام وأحكامه. وذاك يرى أن لا صلاح إلا في انتهاج نهج الغرب والاقتداء به لذلك تونس لا تكون إلا علمانية. عشنا صراعا بين يمين يتاجر بالدين يبحث له عن موقع ويلهث وراء نيل اعتراف به من الأعداء. ويسار فرنكفوني أضاع البوصلة فنسي المفقرين والمهمشين وتاه وراء الصالونات وانغمس في صراعات هووية يعلم انه الخاسر فيها. صراع فتح الباب أمام القديم ليعود فالشعب مل الصراعات والمهاترات وكره النخبة والساسة والسياسيين.

هل أقول خذلنا الثوار والبرلمان الوطني بتصويتهم لقانون المصالحة. بتماهيهم مع الفساد وحماية الفاسدين. برفضهم تجريم التطبيع وعجزهم عن تغيير منوال تنموي أوصلنا الى الهاوية ومواصلتهم لسياسة من قبلهم متعللين بالضغوط وبان «المتفرج فارس». عشر سنوات لم نصلح فلاحة فيها ولا تعليم ولا صحة. عشر سنوات ونحن نصارع الفساد والإرهاب. اصبح لنا برلمانا تونسيا يصادق على ميزانيات توضع على مقاس العصابات ولم يتجرأ إلا على المستضعفين في هذا البلد. وانحصر دوره في المصادقة على القروض التي تتحصل عليها الحكومات المتسولة. لم نأمم الثروات ولم نراجع اتفاقيات ولم نفتك من الغني لنمنح الفقير وحتى التمييز الإيجابي بقي حبرا على ورق. يتباهون بالانتقال الديمقراطي وينسون المحكمة الدستورية التي هي عماده.

هل أقول جاء رئيس اخذ كل شيء في يده ومنح نفسه سلطات اللاهية بعد أن عبد له القوم الطريق نتيجة ما أتوه من سلوكات لم تزد إلا في شرعنة ما أقدم عليه ذات خمسة وعشرين من جويلية. وعد الرئيس الوعود ورفع الشعارات لكن الوضع ازداد سوء وغابت الرؤية وضاعت البوصلة ولم نعرف طريق الخلاص. تم حل البرلمان السابق وها قد جاء برلمان جديد ولا أظن الخير آت معه.

هل أقول خلف من بعدكم خلف أضاعوا ما قاومتم واستشهدتم من أجله ولم يكونوا في مستوى اللحظة ؟ أم أقول لا تؤاخذونا بما يفعل السفهاء منا… وإن لدمكم لحافظون ولما استشهدتم من أجله لمحققون ولو بعد حين.

✍️توفيق رمضان

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock