في إطار الحوار الإسلامي المسيحي
محمد بن جماعة
منذ أيام، انعقد لقاء جديد في إطار الحوار الإسلامي المسيحي بكيبيك (كنت متغيبا بسبب السفر). وكان الموضوع حول مفهوم “الجهاد في القرآن”، من تقديم صديق عزيز..
وإثر اللقاء، راسلنا شاب مسيحي من أصل لبناني، مقيم حديثا بكندا، ليشاركنا ملف وورد أعد فيه قائمة بآيات قرآنية تتحدث عن الجهاد، وفيها محاولة ترتيب زمني، يوحي بها أن الإسلام دين عنف وإهانة وإذلال لغير المسلمين، ويدعو إلى السلم حين يكون مستضعفا، ويدعو إلى الحرب حين يكون متغلبا.. يعني: عبارة عن دين نفاق وخبث ودهاء، يتعاطى بمنطق “تمَسْكِن حتى لين تتمكَن”. وأشار عدة مرات في رسالته إلى أنه يعرف المسلمين ومعتقداتهم جيدا بحكم قدومه من بلد شرق-أوسطي..
__
هنا ترجمة لما أجبت به على رسالته:
شكرا على هذه الورقة الملخّصة.. قرأت محتواها وأفهم جيدًا الآيات القرآنية التي ذكرتها، وأفهم كذلك المقاربة التي اعتمدتَها بمحاولة قراءة الآيات بترتيب زمني. وأتساءل أولاً وقبل كل شيء إن كنّا هنا بصدد حوار يخدم حياتنا المشتركة كمواطنين كنديين، أو بصدد مناقشة حول تاريخ الشرق الأوسط منذ 14 قرنًا.
المقاربة التي تقترحها انتقائية للأسف وتتبنى نفس خطاب حركات العنف المسلح باسم الجهاد. وكما قلت في عدة لقاءات سابقة مع أصدقاء مسيحيين، فإنّ من يريد أن يبحث عن خطاب سلام في أي كتاب مقدس فسيجده، ومن يريد أن يبحث عن خطاب عنف فسيجده أيضًا، سواء كان ذلك الكتاب المقدّس هو القرآن أو العهد الجديد أو العهد القديم أو حتى كتب البوذية المقدسة.. هذا ممكن دائمًا بفضل اعتماد الانتقائية والاختزال وسوء التأويل وإخراج المفاهيم من سياقها النصي وسياقها الواقعي.
لأنه بنفس المنهجية التي تقترحها، يمكننا العثور على جملة من المقاطع الإنجيلية التي سنبرر بها الحروب الصليبية أو الحركة الاستعمارية في القرون الستة الماضية، والتي تم تبريرها من قبل المسيحيين بمقاطع من كتابكم المقدس.
لذلك، أعتقد أنه إذا أتينا إلى اجتماعات حوار بين الأديان، بقصد “فضح / شجب” نيّة سيئة معينة أو خطاب مزدوج لدى الآخر، فستصبح هذه الحوارات عديمة الفائدة..
وحين تذكّرنا بانتمائك إلى الشرق الأوسط لإثبات فهمك الجيد لمعتقدات المسلمين وازدواجية خطابهم، فأنت هنا أيضا مخطئ، لأننا قلنا لكم عدة مرات أنه حتى المسلمون الذين يعيشون في بلداننا الأصلية لا يفهمون جميعا وبالضرورة قيم الإسلام بشكل سليم، أو بنفس الشكل.. وبعضهم يتبنى خطاب عنف أو تشدد، ونحن نناقش ونجادل ونقاوم تفسيراتهم للدين، التي نعتبرها مجانبة ومخالفة لمقصد القرآن والحديث النبوي.
1. يكمن الخطأ الأكبر في نصك في اعتماد القراءة الزمنية (باعتماد ترتيب عبرت عنه بكلمة “مراحل” في كل فقرة: المرحلة1 ، المرحلة2 ، إلخ) والخلط بين عدة مفاهيم معًا: الجهاد، القتال، الحرب، ظنا منك أنّ من السهل الانتقال من مفهوم (مصطلح لغوي) إلى آخر.
مفهوم “الجهاد” في القرآن يجب فهمه حسب السياق، مع مراعاة السياق التاريخي الذي نزلت فيه الآيات، والسياق النصي في الآيات السابقة واللاحقة. ولا يوجد تطور زمني لمفهوم “الجهاد” في القرآن، بل هناك معاني متنوعة تعتمد على السياق والوضع الذي نزلت فيه الآيات.
2. إذا أردنا أن نكون مخلصين للنص القرآني لفهم ما يدعو إليه، فعلينا أن نتبنى مقاربة نُظُمية (approche systémique) وليس انتقائيًة (بترتيب زمني)، من خلال طرح جملة من الأسئلة المنهجية، تسمح بفهم الموضوع فهما شاملا في جميع أبعاده:
- كيف يعرّف القرآن السلام والحرب؟
- ما هي المعايير التي تحدد حالة الحرب في القرآن؟
- كيف يعالج القرآن قضية العنف والعدوان؟
- في أي الحالات يكون استخدام العنف مسموحًا به أو محظورًا وفقًا للقرآن؟
- كيف يتصور القرآن الحل السلمي للنزاعات؟
- ما هي آليات حل النزاعات التي دعا إليها القرآن؟
- كيف يتعامل القرآن مع قضية التعايش السلمي بين الطوائف الدينية المختلفة؟
- ما هي المبادئ والقيم التي ينادي بها القرآن لتعزيز التعايش السلمي بين الطوائف الدينية المختلفة؟
- كيف ينظر القرآن إلى قضية الحرب العادلة؟
- ما هي الشروط التي يجب توافرها حتى تكون الحرب عادلة حسب القرآن؟
- كيف ينظر القرآن إلى قضية السلام الدولي؟
- ما هي المبادئ والقيم التي يدعو إليها القرآن لتعزيز السلام والتعاون بين الأمم والشعوب؟
- كيف يعالج القرآن قضية المصالحة والعدالة في حالات ما بعد الصراع؟
- ما هي آليات المصالحة والعدالة التي دعا إليها القرآن للتعافي من جراح الصراع؟
- كيف يتم تعريف مفهوم “الجهاد” وفهمه في القرآن؟
- إلى أي مدى يرتبط مفهوم “الجهاد” بمفهوم الحرب أو العنف، وإلى أي مدى يرتبط بفكرة الجهد الشخصي للاقتراب من الله؟
- كيف تفسر التيارات الإسلامية المختلفة فكرة السلام والحرب في القرآن؟
- ما هي الاختلافات في التفسير بين مختلف المذاهب والحركات الدينية المختلفة؟
- كيف ينظر القرآن إلى مسألة الدفاع والأمن؟
- ما هي المبادئ والقيم التي ينادي بها القرآن لحماية المجتمع المسلم وضمان أمنه؟
- كيف يتعامل القرآن مع قضية العنف الأسري والعنف بين الأشخاص في المجتمع المتجانس، وفي المجتمع المتنوع دينيا أو عرقيا أو دينيا؟
- ما هي المبادئ والقيم التي ينادي بها القرآن لمنع العنف داخل الأسرة والمجتمعات المتجانسة أو المتنوعة؟
- كيف يعالج القرآن موضوع التسامح وقبول الآخر؟
- ما هي المبادئ والقيم التي يدعو إليها القرآن لتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين مختلف الطوائف الدينية والعرقية؟
- كيف ينظر القرآن إلى قضية السلام الداخلي ومحاربة الشر؟
- ما هي المبادئ والقيم التي ينادي بها القرآن لمحاربة الرذائل والشرور التي تصيب الأفراد والمجتمعات؟
- كيف تكمل الآيات القرآنية المختلفة وتصحح بعضها البعض لتشكيل رؤية متماسكة للسلام والحرب؟
- كيف يتم حل التناقضات الظاهرة بين آيات معينة في القرآن؟
- إلخ…
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها هي الكفيلة بتناول مسألة الجهاد والسلام والحرب في القرآن بطريقة منهجية، مع مراعاة مستويات التحليل المختلفة (النزاعات بين الأفراد والجماعات والمجتمعات والعلاقات الدولية) والجوانب المختلفة للمسألة (التعريفات، العنف، الحل السلمي للنزاعات، التعايش السلمي، الحرب العادلة، السلام الدولي، المصالحة والعدالة بعد الصراع).
وبمثل هذه المقاربة المنهجية، سنكتشف كم أغفل نصّك المرجعي العشرات (إن لم يكن المئات) من الآيات ذات الصلة بالموضوع.. وسنكتشف بالتالي إلى أي مدى قد خان نصُّك رؤية القرآن الحقيقية في هذا الموضوع.