مقالات

قصّة إنسان.. ركام تحت الركام

فتحي الشوك 

أنا الآن تحت الرّكام تحاصرني من الجهات الستّ أطنان من الحجارة والإسمنت المسلّح والغبار ومئات من الآلات المنزلية والأثاث وكثير من الجثث والجرحى وربّما بعض المحاصرين مثلي تحت الأنقاض ينتظرون فرق الإنقاذ.

لا شيء يؤلمني، لا نزيف ولا كدمات ولا جروح ولا ندوب، يمكنني أن أتحسّس جسدي قطعة قطعة واستعمل هاتفي الجوّال وأن أتقلّب ذات اليمين وذات الشّمال وأن أتنفس.
أقطن في الطّابق السّفلي من عمارة من عشر طوابق تهاوت في لحظة لتتحوّل إلى جبل من الرّكام، لا ادري ما الّذي جعل الأشياء تتساقط بشكل جعلها تحميني من أيّ أذى وتبني لي غرفتي هذه الّتي بالكاد تسع جسدي وتمكّن صدري من الشّهيق والزّفير ويداي بمجال للحركة، أطارد فكرة أنّني في قبر وأنّها النّهاية الّتي كنت ألهث دوما لتلافيها وأتشبّث بخيط دقيق كخيط العنكبوت بأنّني سأنجو ككلّ مرّة من موت يتربّصني.

العناية ستعتني بي كما اعتنت بي مرّات ومرّات تماما كيوم مولدي حينما ماتت أمّي أثناء المخاض ويئس الأطبّاء من شفائي ونزعوا عنّي أجهزة التنفّس الاصطناعي ليتسلّمني أبي ويضمّني بحرقة جعلتني أسعل ثمّ أتنفس، في السّادسة من عمري كنت ألهو مع أقراني فيدفعني أحدهم وتجدني منبطحا وسط الطّريق لتمرّ فوقي شاحنة ضخمة دون أن يمسّني سوء، وفي سنّ العاشرة تركني أبي وحيدا بعد أن تعرّضنا لحادث قاتل ونحن في طريقنا لزيارة قبر أمّي، استغرب حينها الجميع كيف نجوت منه.

أذكر جيّدا ملامح وجه أمّي كان أبي يصفها لي بكلّ تفاصيلها وهي لم تغب لحظة عن مخياله إلى درجة أنّي اعتقدت أنّها تسكنه.

في سنّ العشرين تخاصمت مع صديق بعد أن باح لي بأنّه يضاجع صديقتي كما في أفلام الإباحة وأنّها تفعل ذلك مع العديدين حينما تثمل على عكس ما كنت أتمثّلها ملاكا طاهرا، تشابكنا فدفعني ليرتطم رأسي بمزهرية في ركن المقهى وأدخل في غيبوبة استفقت منها بعد أسبوع على صوت الطّبيب وهو يهمس: “لقد نجوت بأعجوبة”.

منذ خمس سنوات صدمتني سيّارة لتكسر ثلاثة من أضلعي وفي السّنة الماضية أصبت بالتهاب رئوي حاد نتيجة للكوفيد تطلّب وضعي تحت جهاز التنفّس الاصطناعي.

أنا كما قطّي الّذي انتشلته من الشّارع لأعتني به واتّخذه رفيقا وصديقا وأشكوه همّ يومي فيغمض عينيه تارة ويموء تارة أخرى لاسترسل في سرد حكاياتي التافهة تفاهة ما نعيشه من تفاهة ليتركني وقد أشعلت سيجارتي العاشرة وجرعت كأسي السّادسة ويذهب يتسكّع في الطّريق المقفرة باحثا عن قطّة تؤنسه.

أنا كما قطّي كنت من حين لآخر أبحث عن قطّة، لم أتزوج ولا أفكّر في الارتباط بتاتا ولا يمكنني البتّة تحمّل مسؤولية أو تبعات ذلك أو إضافة أثقال أخرى تقصم ظهري أو أكون سببا في إيجاد بائس جديد مثلي في عالم بائس مزدحم بما فيه الكفاية صار يلفظ أحياءه ويرسم لهم النّهاية حتّى قبل البداية!

أكره الحديث عن الحبّ وروايات الحبّ واعتقد أنّه كذبة كبرى نتوهّمها لا وجود لها إلا في الكتب، إحساس رسخ لديّ منذ شجاري مع صديقي عندما كشف لي حقيقة من أحببت أو اعتقدت أنّي أحببت، صرن كلّهنّ مثلها باستثناء أمّي الّتي وضعتني ولم تحضنّي.

أنا كقطّي متقلّب ومزاجي الطّبع أميل إلى العزلة وليست لي صداقات فهي تتطلّب الصّدق وهو ما لا يتوفّر لديّ أو لديهم، أكذب حينما يتطلّب الأمر ذلك وأشي بزميلي حينما تقتضي المصلحة ذلك وارتكب الحماقات وارتاد الملهى والمسجد وأتقلّب بين هذا وذاك وأحتاج في بعض الأحيان إلى بعض الأقراص لأنام بعد جولة سريعة أشاهد خلالها التلفاز وهو يتقيّأ أخبار البؤس والتّعاسة وبعد إطلالة سريعة عل مواقع التّواصل الافتراضي وهي لا تقلّ تفاهة في زمن صناعة التّفاهة، لأستفيق على مواء قطّي وهو يطلب الغذاء، يوم جديد لا يختلف عن أمسه، لأنهض وألهث وراء متطلّبات الحياة، نطلبها فتسلبنا الحياة.

أنا كقطّي الّذي تقول عنه عجائز القرية بأنّه ككلّ القطط له سبع أرواح، لكنّ قطّي دهسته سيّارة منذ أيّام ومات وكأنّه استنفذ آخر خرطوشة من السّبع. حزنت كما لم أحزن من قبل وشعرت بحرقة فراق عزيز وتألّمت تألّم من تيقّن بأنّه صار وحيدا بلا رفيق ولا مؤنس وارتجفت حينما أحسست بأنّي قد ألقى نفس المصير بعد أن استنفذ خراطيشي الّتي وفّرتها لي العناية. منذ أيّام وأنا استعرض فلم ما مررت به في الأربعين سنة الّتي مضت وأحصي عدد المرّات الّتي نجوت فيها من موت محقّق فأجدها أقلّ من السّبعة المخيفة وربّما يكون ما وقع بالأمس هو تمامها.

ما يطمئنني أنّني الآن لا أشكو ألما وأتنفّس، المكان ضيّق جدّا وشديد الظّلمة، أتنفس مع بعض اللّهجة وقلبي يخفق بشدّة وبصيص نور يتسرّب بخجل من فجوة صغيرة في حجم ثقب إبرة.. وأصوات أنين ونشيج وصراخ استغاثات تطرق مسامعي من حين لآخر، تحسّست جسدي مرّة أخرى واستعملت هاتفي الجوّال للإضاءة فأكثر ما تخيفني هي الظّلمة، قد ينطفئ بعد ساعة، ليس مهمّا، ليس لي من أهاتف أو أعاتب، سأستغلّ ما بقي لي من وقت ومن هواء أتنفّسه لترتيل بعض ما حفظته عند ارتيادي للمساجد فهي من تبعث فيّ بعض السّكينة وسأقوم بغسل نفسي وكفني وقبل ذلك سأستغلّ ما بقي من طاقة في هاتفي لأكتب: قصّة إنسان ركام تحت الرّكام.

د.محمّد فتحي الشوك

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock