مقالات

قلة من التونسيين ينتخبون مجلس نواب بلا شعب

عبد السلام الككلي

ذهب عدد قليل من التونسيين أمس الأحد 29 جانفي 2023 إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية في دورها الثاني لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب في ظل مقاطعة واسعة من جل الأحزاب السياسية ومن كثير من مكونات المجتمع المدني وفي ظل عدم اكتراث أكثر التونسيين بها وأكدت نسبة المشاركة وهي حسب الأرقام الرسمية التي أعلنتها عنها هيئة الانتخابات 11.3 بالمائة وهي تقريبا نفس نسبة المشاركة التي سجلت في الدور الأول و التي كانت 11.2.

واعتبر البعض أن هذه النسبة كرست بشكل حاسم نهاية مسار 25 جويلية كما عنونت جريدة المعرب في عددها الصادر استثنائيا الاثنين 30 جانفي. وبقطع عن هذا الحكم فانه من شبه الأكيد أن قيس سعيد ذاهب بلا توقف ولا مراجعة في مشروعه وان المجلس الجديد الذي يعتبره البعض فاقدا للشرعية بل مسخا على تعبير محمد نجيب الشابي رئيس جبهة الخلاص بحكم انه لا يمثل إلا 11 بالمائة من المواطنين سوف ينصب رغم إرادة اغلب التونسيين. ولكن أي مجلس سوف نرى غدا في قصر باردو وماذا يملك من صلاحيات المجالس الديمقراطية ؟.

لن نتوقف هنا عند النظام الانتخابي المعتمد في هذه الانتخابات وهو الاقتراع على الأفراد في دورة أو دورتين لان أيّ نظام اقتراع لن يكون بوسعه تحريك سواكن برلمان شبه ميت مقيّد في عمله فهو ليس غير عين رئيس الجمهورية الرقيبة على عمل الحكومة. هذا بالإضافة إلى تضييق مجال عمل النائب بوضع ضوابط للحصانة البرلمانية وبإمكانية سحب الوكالة منه.. وهو ما يمثل سيفا مسلطا عليه وعقابا قد يطوله اذا ما سولت له نفسه الخروج عن دور المنفذ المطيع في برلمان سيكون أشبه بمكتب الضبط في إدارة برأس واحد وإرادة واحدة.

برلمان محدود الصلاحيات

لم يكتف دستور 2022 ببيان ما يدخل في اختصاص البرلمان على غرار دستور 1959 ودستور 2014 وإنّما حدّد للبرلمان بغرفتيه ضوابط تقيّد عمله ولا يمكن له أن يحيد عنها فمجلس نواب الشعب يمارس «وظيفته التشريعية» في حدود اختصاصاته المخولة له في الدستور حسب صريح الفصل 67 منه والذي لا يوجد له شبيه فيما يخص «الوظيفة التنفيذية» التي اطلقت يدها تماما. فحصر الوظيفية التشريعية في ما حدده الفصل وعدم الخروج عنه هو بمثابة إنذار للنواب بعدم تجاوز صلاحياتهم لاسيما منها الرقابية التي ضيق نطاقها.

فالبرلمان بغرفتيه ليس له صلاحية مناقشة أو إدخال تحويرات على السياسة العامة للدولة أو الاعتراض عليها فرئيس الجمهورية هو الذي يضبطها ويحدد اختياراتها الأساسية ويعلم بها المجلسين وهو الذي يعين رئيس الحكومة وباقتراح من رئيسها بقية أعضائها وهي مسئولة أمام رئيس الجمهورية عن تصرفاتها. فله أن ينهي مهامها أو يقيل أي عضو منها تلقائيا أو باقتراح من رئيس الحكومة وهو ما يعني في المحصلة أن الحكومة ليست مسئولة أمام البرلمان إذ لا تستمد شرعيتها منه وتنحصر مهمتها في السهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية. فإذا تبين للمجلسين أن الحكومة خالفت هذه السياسة يمكن لهما أن يعارضاها في مواصلة تحمل مسئولياتها فيوجهان ضدها لائحة لوم غير أن هذه اللائحة كأنها لم تكن، فهي مجرد سراب، إذ تبدو أمرا بعيد المنال إذ يشترط لسحب الثقة أغلبية بالثلثين في كلا المجلسين. وهكذا تصبح لائحة اللوم مجرد إمكانية شبه مستحيلة في ظل مجلس ضعيف يهدد نوابه العقاب الذي يتضمنه سحب الثقة. بهده الصيغة يكون البرلمان بغرفتيه عين رئيس الجمهورية على الحكومة وليس عين السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية في نظام توازن للسلط. وبطبيعة الحال استبعدت في هذا النظام المختل تماما أية إمكانية لمساءلة أو محاسبة رئيس الجمهورية إذ لا يمكن بأية حال عزله أيا كانت الأخطاء التي يمكن له أن يرتكبها فهو بهذا النظام الكلياني يرتقي إلى مرتبة النبي المعصوم أو على الأقل إلى مصاف الزعماء الروحيين الملهمين. أما إذا حدث خلل في سير دواليب الدولة فذلك لان الحكومة لم تحسن تنفيذ السياسة الحكيمة التي ضبطها رئيس الجمهورية علما أن هذه المنظومة الدستورية منقولة بشكل شبه حرفي عن دستور 1959 (انظر الفصول 49 و 50 و 51 و 58 و 62).

ولمزيد التحكم في الإطار الضيق بطبعه الذي صنع «للوظيفة التشريعية» وضع الدستور ضوابط للحصانة البرلمانية التي هي موضوع الفصل 64 فيما يخص أعضاء مجلس نواب الشعب والذي يحيل عليه الفصل 83 فيما يخص أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم. ولا يمكن قراءتهما بمعزل عن الفصول المبينة لعمل البرلمان بغرفتيه ولاسيما عمله الرقابي وينص الفصل 64 على انه «لا يمكن تتبع النائب أو إيقافه أو محاكمته بسبب آراء يبديها أو اقتراحات يتقدّم بها أو أعمال تدخل في إطار مهام نيابته داخل المجلس» ويتضح من هذا الفصل أن دستور 2022 حدد الإطار الوظيفي وظرف المكان ليتمتع أعضاء المجلسين بالحصانة البرلمانية. فهو يحصرهما في داخل عمل العضو وفي البرلمان أما خارج ذلك فهو مجرد، أعزل من أية حصانة بل أكثر من ذلك إذ وضع الدستور نظاما داخليا للمجلس يمنعه من أي خروج عن السلوك المستوجب من النائب في نطاق الانضباط الذي يطلب منه.

إن تحديد ظرف المكان يمثل معطى جديدا مقارنة بدستور 2014 وهو عودة مرة أخرى إلى دستور 1959. فقصر البرلمان بغرفتيه دون غيره من الأماكن هو الفضاء الوحيد الذي تسري فيه أحكام الحصانة سواء في الجلسات العامة أو في اجتماعات اللجان. فأي رأي يبديه النائب أو مقترح يقدمه أو عمل ينجزه خارج قبة البرلمان لا تسري عليه أحكام الحصانة مثل مشاركته في البرامج الإذاعية والتلفزية أو زيارته للمرافق العمومية في الدائرة التي يمثلها أو في غيرها حتى لو اعتقد النائب انه يتصرف في نطاق مهامه النيابية ولمزيد التضييق على النائب فان ما يأتيه النائب حتى تحت قبة البرلمان ليس كله مشمولا بالحصانة بل يستثنى منها عملا بأحكام الفصل 66 الجرائم المرتكبة داخل المجلس مثل القذف والثلب وتبادل العنف. كما يستثنى منها تعطيل السير العادي لأعمال المجلس..

وقد يكون الفصل 66 رد فعل من قيس سعيد على ما كان يجري في البرلمان من تعطيل لأعماله ولاسيما تعطيل جلساته العامة وتبادل العنف البدني واللفظي بين النواب أحيانا.

وبطبيعة الحال ينضاف إلى كل هذا العمل التضييقي على «الوظيفة التشريعية» «سحب الوكالة»

وينص الفصل 56 من الدستور المدرج بالباب الثالث المتعلق ب «الوظيفة التشريعية» على أن الشعب صاحب السيادة يفوض «الوظيفة التشريعية» لمجلس نواب الشعب وللمجلس الوطني للجهات والأقاليم وينص الفصل 61 من الدستور على أن وكالة النائب قابلة للسحب بما يعنى أن الانتخابات التشريعية تمثل إسنادا من الناخبين لأعضاء هذين المجلسين توكيلا هو بمثابة التوكيل المدني أي نِيابَة بمقتضاها يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل.

ولا يوجد مثيل للفصلين 56 و 61 في الباب الرابع المتعلق بـ «الوظيفة التنفيذية» كما قلنا فرئيس الجمهورية منتخب من الشعب صاحب السيادة لكنه يقع خارج الوكالة أي بعيدا عن دائرة المحاسبة والمساءلة مما يؤدي إلى اختلاف في الطبيعة القانونية بين «الوظيفة التشريعية» و«الوظيفة التنفيذية» مادام رئيس الجمهورية غير مفوض له بتوكيل على شاكلة عضو البرلمان الخاضع إلى منطق التفويض الشعبي تسحبه منه هيئة الانتخابات وفق المرسوم عدد 55 لسنة 2022.

برلمان لا يشبه البرلمان

هذا هو المجلس الذي سنراه غدا. مجلس لن يختلف كثيرا عن مجالس بورقيبة وبن علي. وظيفته المصادقة على مشاريع القوانين التي تقترحها السلطة التنفيذية دون نقاش جدي أو اختلاف حقيقي في ما يشبه صندوق بريد أو مكتب ضبط، يطغى عليه منطق الولاء للقائد الملهم الذي مكن الكثير من الأشخاص المغمورين بلا أي ماض سياسي ولا مؤهلات من عضوية المجلس وهو أمر ما كانوا ليحلموا بها في انتخابات تعددية ديمقراطية بالإضافة إلى سيف سحب الثقة المسلط على رقاب النواب مع نظام داخلي للمجلس حدد دستور 2022 الذي كتبه رجل وحيد أهم تفاصيله ليكون ثاني سيف مسلول على عنق أي عضو متعنت تحدثه النفس الأمارة بالسوء بالخروج عن الإجماع. هو مجلس بلا رقابة على السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة.

هذه هي السلطة التشريعية (أو بالأحرى وظيفة) التي تنتظر البلاد في ظل سلطة تنفيذية تلتهم كل شيء وفي ظل معارضة منقسمة على نفسها عاجزة عن الاتفاق على الأدنى تدور منذ 25 جويلية 2021 في حلقة مفرغة مشغولة بمناكفاتها الداخلية عالقة في العشرية التي يسميها البعض سوداء في ما يشبه توقفا للزمن عند نقطة النهاية التي لا ترى أفقا لأي انطلاقة أخرى.. في حين تكاد السياسة تفقد معناها في بلد عمل قيس سعيد على إلغاء كل الأجسام الوسيطة فيه، منهك اقتصاديا، مقبل بعد التصنيف الأخير لـ «موديز» على الإفلاس بحسب كل الخبراء الاقتصاديين. يكاد المواطن المغلوب على أمره يفقد فيه ثقته في أي تغيير ممكن فيركن إلى الاستسلام إلى واقعه المرير في انتظار معجزة تحل من السماء لتعيد إليه الأمل في غد أفضل.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock