تدوينات تونسية

مرّة أخرى.. سنقاطع.. وسنقاوم

فتحي الشوك 

في منتصف نهار تلبّدت سماؤه بغيوم عقيمة وشمسه تقاوم لترسل بعض الأشعّة الخجولة وتنشر بعض الدّفء في جوّ يلفّه الصّقيع، رنّ جوّالي لتهاتفني امرأة مسنّة تستغيث طالبة نجدة لابنها وهو ينزف بعد أن قطع شرايين يده اليمنى، أعلمت الشرطة والطّوارئ لتجدني بعد لحظات أمام كهل خمسيني مستلق ويده تتدلّى وقد كفّ النّزيف بعد أن أفرغ معظم ما في شرايينه في دلو وضعه بجانبه، وبالرّغم من حالته الحرجة لم يفقد وعيه بل سارعني بالإجابة على سؤال لم أطرحه: “قطعت شريان معصمي بمقصّ أظافر وتناولت عشرة أقراص من دواء مثبّط لدقّات القلب، أريد أن أموت، دعني أرحل”. ونقيض رغبته المميتة في موت يستعجله نقل إلى قسم الطّوارئ ليتمّ إسعافه وإنقاذه.

كان هذا الكهل في سعة من العيش وقد يفسّر إصابته بمتلازمة ثنائية القطب إقدامه على محاولة الانتحار هذه، لكن ما الّذي يفسّر قطع طبيبة أطفال مقيمة لشرايين يدها في نفس اليوم؟
وما الّذي يفسّر إقدام خمسة من المواطنين التونسيين على الانتحار في مناطق مختلفة من هذا الوطن المنكوب، اثنان شنقا وثلاثة حرقا في ظرف 48 ساعة مضت؟
وما سرّ ارتفاع ضحايا حوادث الطّرقات بشكل مفزع لتبلغ 10 قتلى و463 مصابا في أقلّ من 24 ساعة؟
أمّا عن قوارب الموت فحدّث ولا حرج.
ما الّذي يجعل الرّغبة في الموت تنتصر على الرّغبة في الحياة؟
لو خضنا حربا دمويّة طاحنة أو تعرّضنا لزلزال مدمّر لما شاهدنا مثل هذه الأرقام!

رائحة الموت تزكم الأنوف والخراب يعمّ النّفوس، خراب ليس بالوافد الجديد أو المستجدّ الطّارئ بل هو حصيلة عقود من التخريب عمّقه ما نعيشه من عبث ومصائب نتيجة لانقلاب غبيّ طائش نشر اليأس ونفث الحقد وضرب ما بقي فينا من قيم وسعى إلى قتل الأمل وكلّ رغبة في الحياة.
لم تكن آثار الانقلاب المدمّرة مادّية فحسب، من ضنك عيش وارتفاع مكوكي للأسعار وفقدان لأبسط المواد الحياتية من غذاء ودواء وسجن المعارضين وتدمير للمؤسّسات وتضييق على الحرّيات بل شملت ما هو أخطر وأمرّ وهو نشر اليأس وقتل الرّغبة في الحياة.

وفي ظلّ هذا المشهد السّوداوي القاتم الكئيب يتحدّث بعض من لا يملك ذرّة من خجل وبكلّ صفاقة عن عرض الجزء الثاني من مسرحية الانتخابات المهزلة، ليهدر المال العام وتسخّر أجهزة دولة فاشلة ومفلسة بحثا عن شرعيّة مفقودة، وتستعدّ هيئة انتخابات معيّنة فاقدة للمصداقيّة للتزوير، بينما غالبية الشّعب يلهث وراء قوت يومه ويقف السّاعات الطّوال في طوابير البحث عن سلع مفقودة في بلد صار يتلقّى شحنات الإغاثة.

مرّة أخرى.. سنقاطع وسنقاوم أعداء الحياة بما بقي فينا من رغبة في الحياة.

د.محمّد فتحي الشوك

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock