مقالات

وصفة النجومية لدى جماعة “التنوير” العربية

أبو يعرب المرزوقي 

من يظن أني أشكك في رجاحة عقل المفكرين العرب المحدثين لأبرز ما يميزني عنهم اعتدادا بنفسي وزعما أن عقلي ارجح من عقولهم يخطئون في تهمتهم إياي بما أنا أبعد الناس عنه.
فكيف يكون ذلك كذلك وأهم ما اعتمده في محاولاتي هو أني اعد العقل شديد القصور في معرفة الحقيقة في ذاتها وهو إذا إدعى ذلك يتجاوز حدود ما يستطيع.

والدليل هو أن أولى الحقائق التي كان ينبغي أن يستند إليها إذا صح ذلك هو أن تكون معرفته بنفسه يقينية: فمن من البشر يستطيع أن يثبت أنه “عاقل” حتى بمعنى معجمي خالص؟
فـ”يعقل” تعني لغويا “يربط” كل معطيات أي موضوع يخوض فيه ربطا يحيط بكل ما يتدخل في ما يسميه واقعا فيعقله بحيث يطابق ما يظهر له نه حقيقته في ذاتها. وتلك هي علة كون الالمان مثلا يسمون العقل “الايمان بالعقل” Der Vernunftglaube.
وقبلهم قال الغزالي: “عادت الثقة بالأوليات بنور قذفه الله في القلب” أي إن القول بالعقل مسألة إيمانية وليست حقيقة علمية: ذلك أن ما يسمى الأوليات أو البديهيات التي يستند إليها كل استدلال لا دليل عقلي عليها وهي مسلمات أو مواضعات لا غير حتى نبدأ عملية التفكير والاستدلال قطعا للتسلسل والدور في نقطة بعد الإجماع عليها بين من يسمون علماء مجتهدين في منطلقات أي اختصاص علمي.
وابن تيمية استعمل حجة أقوى من حجة الغزالي إذ قال إن إدراك كل لوازم أي موضوع مستحيل. فالعلم المحيط من ثم مستحيل لأنه يقتضي علم كل الوجود في علم كل موجود.

ما يحيرني ليس عدم رجاحة عقولهم بمنطق خالف تعرف بل تسرعهم في افتراض المستحيل حاصلا. فلست أفهم علة وثوقهم في رأي من اعتبر الغزالي ممثلا للظلامية. فهل عندهم تفسير لعجلتهم في تصديقه عندما :
اعتبره ممثلا ليمين الأرسطية واعتبر ابن رشد ممثلا للتنوير لكونه اعتبره ممثلا ليسار الأرسطية قيسا على يمين الهيجلة ويسارها (ارنست بلوخ)
فجعل من ثم اسقاط الرؤية الماركسية على رؤيتهما لتكون مقياسا يصنف به فكرهما خاصة وهو يؤيد ارناست رونان في تمجيد ابن رشد اللاتيني فصار عندهم ممثلا للعقلانية والعلمانية وكل التخريف اليساري العربي.
فهذا هو سر كل مواقف ما يسمى باليسار العربي الذي ليس له من اليسار إلا الشعار وكثرة اثارة الغبار بدلا مما يزعمونه تنويرا وهو تقليد بليد لأدنى احكام الفكر الغربي ما بعد المدرسة النقدية ممثلة بهيجل وماركس؟

لما كتبت رسالة الأهلية في الأستاذية في السوربون بباريس سنة 72 من القرن الماضي حول مفهوم السببية عند الغزالي صرت عند يساريي تونس اخطر على التنوير من الغزالي. فحاولوا نبذي لأني “ظلامي” وهم تنويريون في حين أن جلهم يجهل الفكر الغربي يونانيا كان أو أوروبيا وليس له من الحداثة إلى الحدوثة. وهو ما جعلني أقول لهم “الحداثة غيرت صفها: صارت معنا نحن الإسلاميين”: لكنها حداثة الإبداع والتحرر من التقليد للماضي الأهلي ومعه الأجنبي.

لكن الأدهى من ذلك هو أن كل من يريد أن يصبح مشهورا من بين المفكرين العرب ونجما صار بوعي منه أو بغير وعي يستعمل هذه الروشيتا المؤلفة من هذين المعيارين وخاصة في الموقف من الدين الإسلامي.
ما لم أفهمه هو أن حمى النقد الديني ليست إلا روشيتا للنجومية السريعة دون حاجة للعلم ولا للصبر في البحث لفهم العلاقة بين الدين والفلسفة المتلازمين في كل تاريخ العقل البشري.
هذه الحمى طغت خاصة بعض المختصين في العربية دون كفاءة في علوم اللغة تذكر -وهم زعماء هذا التساهل في ادعاء الفلسفة من مصر والجزائر وتونس والكثير من تلامذتهم. وجلهم حمقى- اشهر من نار على علم بمواقف كلها ترد إلى معادلة هيجل المغشوشة في نسختها المنحطة التي تمثلها الماركسية ليس حتى في مدلولها عند صاحبها ولا عند مجدديها بل كما وردت في الثقافة الشعبية من جنس الكتاب الأحمر وفي تطبيقاته الستالينية.

المعادلة هي: الواقع =عقلي. والعقلي= الواقع. وهي معادلة عجيبة لم يدركوا أنها مصادرة على المطلوب. فهو يعادل بين مجهولين: العقل والواقع. ثم يستخرج من معادلة مغشوشة هي عين ما صادرت عليه. أي إنه يصادر على أنه لا وجود لما يتجاوز ما ندركه من الواقع الماثل لمداركنا فيصبح إدراكنا محددا للواقع ماثله له ولغير ماثله له. ويسمون ذلك عقلا: وهو عندي حمق وليس عقلا.
فما ندركه مما يسمونه “الواقع” لا يكاد يساوي واحد في ما لا يتناهى مما لا ندركه في أي لحظة من لحظات تاريخ البشرية الإدراكي إذا قسناه بما نجهله منه خاصة بعد أن أكد العلم أن كل تقدم في إدراكه يزيده توسيعا وامتدادا.
وبهذا المعنى فكلامي على سطحيتهم ليس له غير هذا القصد. فليس فيه ادعاء ما أنفيه عن الجميع بمن فيهم أنا نفسي. ولهذه العلة فإني لا أرى في ما أكتب ما يمكن أن يعد ادعاء الكمال في ما يمكن أن اختلف به عن غيري. اللهم إلا إذا كان الاعتراف بالعجز كمالا تصديقا للصديق “العجز عن الإدراك إدراك”.

لذلك فكل من يتصور كلامي على فلاسفتنا ومتكلمينا القدامى قدحا فيهم -مع العلم أنهم كانوا جميعا بلا استثناء دون فلاسفة اليونان علما وتواضعا- إلا في وهمهم أن فلاسفة اليونان بلغوا الغاية في المعرفة الإنسانية فصاروا يعتبرون فكرهم مقياسا لمحاكمة القرآن وتأويله بما يترتب عليها. ولست أدري كيف لمن درس المقالة الثانية عشرة من الميتافيزيقا يمكن أن يقيس الرب القرآني بالرب الأرسطي.
وهذا الخلل يتكرر حاليا فجعل من اليسير حتى على الأغبياء من جنس ثالوث نقد الدين من أقسام العربية في مصر (أبو زيد) والجزائر (عركون) وتونس (أكثرهم تقية: الشرفي) يمثلون اشهر مفكري عصرنا. وحتى في تصنيف علماء سوريا.

محمد الشرفي
محمد الشرفي
محمد عركون
محمد عركون
نصر حامد أبو زيد
نصر حامد أبو زيد

ولم أر مؤخرا ذكر إلا لثلاثة أسماء بين مفكري سوريا (في إشارة للأستاذ عبد الرحمن نعسان) وهم ثلاثتهم لم يعرفوا بغير روشيتا النقد الديني دون أعمال فلسفية أو علوم إنسانية أو تاريخية أو علوم لسانية أو منطقية ابدعوا فيها ما يؤهلهم للسبق في هذا المجال: إذ هذه هي أدوات تاريخ الأديان والفكر عامة.
وكل “المتجلمغين” من الاعلاميين في مصر والمغرب في نقد الفكر الديني وخاصة من يفصلون بينه وبين الفلسفة وليس بينه وبين السياسة فحسب هم من علامات الانحطاط وليس من علامات التنوير: فلا يمكن أن يكون الاميون منورين لا لأنفسهم ولا خاصة لغيرهم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock