في وجاهة العودة إلى أغاني الشيخ إمام: الملسوع منا يرى الحبل حنشا
كمال الشارني
نور الدين يا صاحبي، سنعود إلى أغاني الشيخ إمام وأدب السجون والأغاني السرية، ليس بسبب جنوح الدولة إلى التجويع بالضرائب المجحفة والمرسوم 54 متاع تجريم النقد، إنما اسمعني إلى الآخر: لأمر طويل وحزين مثل أغلب أبناء جيلي، أحببت الشيخ إمام بكل شعرائه ووجدنا في أغانيه علاج هواجسنا الخاصة، لقد كانت أغنية “أهيم شوقا أعود شوقا” آخر شيء انتشيت به إلى درجة الاكتئاب ليلة 12 جانفي 1986 في بيت صديق في مدينة تاجروين ونحن نتظاهر بالإعداد لامتحانات نصف السنة في الباكالوريا فيما أنا قلبي يموت حبا تحت عبارة “وطي في الصوت لا يسمعونا”، قبل أن أرمى في متاهة سجون الوطن بعد يوم واحد لثلاث سنوات.
وفي ديسمبر 1987 قتلتني مناخات المواويل الموسيقية لأغنية “مصر يامه يا بهية”، كان معنا في “بيت الجرب” حاشاكم وهي غرفة لعزل المرضى والخارجين عن الطاعة في سجن القصرين المركزي، شيخ أهبل رحلوه إلينا عقابا من سجن برج الرومي، ينام نهارا ويستيقظ ليلا ليغني، فكان بقية المساجين يضربونه إلى أن ينام، لم يكن صوته جميلا، إنما كان يؤدي بصدق نبيل مفاجئ الموال الرائع للأغنية “جزاير جزاير” لمن يحفظ كلمات أغنية مصر يامه يا بهية، كان يحفظها كأنه هو الذي لحنها، وهو أول من عرفني أن قفلة الموال “إلي بنى مصر في الأصل كان حلواني” التي سرقوها من أحمد فؤاد نجم وأصبحت أشهر احدى أغاني المسلسلات المصرية، تعني التونسيين الذين بنوا القاهرة.
إنما بكيت حقا من القلب بسبب الشيخ إمام بعد عمل صحفي عن غرق شباب حراقة في ولاية المهدية نهاية التسعينات، بسبب شهادة فتاة في الثانية عشر بمنديلها الوردي وظفيرتين طويلتين، شقيقة غريق في الثمانية عشر عاما، عدت إلى النزل بعقدة في حلقي مثل شيء يرفض الابتلاع، حزينا منغلق النفس إلى أن اهتديت إلى أغنية “حلوا المراكب مع المغرب وفاتوني” للشاعر العظيم نجيب سرور (البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أتدلع أملأ القلل)، وهبطت عليّ كل أحزان العمر الشاق والعالم الكئيب، ومع الأغنية، كان يخيل إلي أنها هي التي تغني عن أخيها الأكبر: “الطير ده من هَشه؟ على الريح بنى عِشه؟ يا عود ريحان أخضر والغربة بتحشه، صعبان علي يا قلب الورد يا صغير والله ده كان بدري تتلوع وتتحير”، وقتها تذكرت أستاذنا سي بلقاسم العياري في رابعتنا ثانوي عام 1982: نَزَفَ البُكاءُ دُموعَ عَينِكَ فاِستَعِر عَيناً لِغَيرِكَ دَمعُها مِدرارُ، مَن ذا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكي بِها، أَرَأَيتَ عَيناً لِلبُكاءِ تُعارُ” للعباس بن الأحنف.
لو سيبنا أحزاننا في العالم العربي على العالم لأغرقناه لأننا أنتجنا أطرف وأغرب الحكام في تاريخ البشرية، وقد تذكرت الطفلة بملامح وجهها الريفية الحزينة في القاهرة وأنا أحاول المشي على آثار خطوات رفيق آلامنا الشيخ إمام حيث عاش حتى سجن القلعة الرهيب الذي حوله العسكر إلى متحف، حيث يمكن فقط لمسجون قديم أن يدرك حجم الرعب الذي عاشته أجيال من المثقفين منهم الشيخ إمام ورفيقه أحمد فؤاد نجم، بلغ بي الاحترام له حد الجلوس في غرفة العزل الانفرادي التي سجن فيها زمن أغاني “أنا رحت القلعة وشفت ياسين”، و”يا شمس يا هلة”، وددت لو كتبت على جدران سجن القلعة: المجد للشاعر مظفر نواب وهو يقول: “هذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر، سجان يمسك سجان”، ولو فعلت ذلك، لكنت تنتظر إلى أن ترحل عن هذا العالم أن يفرج عني من السجن.
نور الدين يا صاحبي، نحن شخصيات من حنين وذكريات وأغان معذبين بالماضي والملسوع منا يرى الحبل حنشا، نكتب هذا لكي لا يتكرر لنا مرة أخرى ما حدث لأجيال منا طيلة عقود، إنما، صاحبي، أنا وأنت مهددون بجرائم التطاول على رموز الدولة، دولة 8.8 بالمئة من الناخبين تهدد وتزأر علينا، لا تستهن بها، فأنا أنظر إلى جاهزية فئة كبيرة من الناس إلى خدمة الطاغية، ففي قلب أغاني الشيخ إمام، أغنية “أنا الأديب وأنتم أدرى وعاشق الناس والخضرة، لا عمري طبلت في حضرة ولا قلت حاضر للنصاب، الله الله يا بلدي ولا كنا صحاب، خاين ولا حد يجيروه زي الكلاب يلقى مصيره، قتيل وفايت فينا غيره ماشين وف نفس السرداب، الله الله يا بلدي مخبر ع لباب”، لو كنت رئيسا لجعلت أشعار أحمد فؤاد نجم مادة أساسية في الأدب.
إنه ليس حبلا نراه بحكم الخوف من الماضي حنشا، والله إنه حقا حنش ضخم يتقدم نحونا، طالما كان الجوع سببا لتقبل القمع.