مقالات

بعد القرار التاريخي للدائرة الابتدائية للمحكمة الإدارية بصفاقس: هل قرار الدائرة الاستئنافية مسيّس ؟

عبد السلام الككلي

أصدرت الدائرة الابتدائية للمحكمة الإدارية بصفاقس برئاسة حمدي مراد وعضوية المستشارين سامي عبيد ورحمة الجلولي حكمها في الذي ورد في تعليله أن القرار المطعون فيه والذي رفض ترشح الطاعن إلى الانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر تأسّس على القرار الترتيبي للهيئة عدد 25 لسنة 2022 المتعلق بشروط وإجراءات الترشح للانتخابات التشريعية والذي لم يُنشر في الرائد الرسمي الرسمية في حين أنّ الفصل 19 من القانون الأساسي المنظّم لعمل هيئة الانتخابات يفرض ذلك كشرط لنفاذه. وينص هذا الفصل على انه – تتولى مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وضع التراتيب اللازمة لتنفيذ التشريع الانتخابي وتنفيذ المهام الموكولة للهيئة يمضيها رئيس الهيئة أو نائبه عند الاقتضاء وتنشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسي. كما ينص الفصل الثاني (02) من القانون عدد 64 لسنة 1993 المؤرخ في 5 جويلية 1993 يتعلق بنشر النصوص بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وبنفاذها على أن «تكون النصوص القانونية والترتيبية نافذة المفعول بعد مضي خمسة أيام على إيداع الرائد الرسمي المدرجة به بمقر ولاية تونس العاصمة. ولا يعتبر في حساب الأجل يوم الإيداع. ويمكن أن تتضمن هذه النصوص إذنا صريحا بتنفيذها حالا أو في أجل يتجاوز المهلة المذكورة بالفقرة الأولى من هذا الفصل.».

واعتبرت المحكمة في قرارها أن الهيئة باستنادها إلى قرار ترتيبي غير منشور بالرائد الرسمي أخطأت في مجال تطبيق القانون و استنادا إلى هذا نقضت المحكمة قرار الهيئة وألزمتها بقبول ترشح الطاعن واعتباره ترشحا نهائيا كما اعتبرت المحكمة في قرارها أن مجال تطبيق القانون هو من متعلقات النظام العام تثيره المحكمة من تلقاء نفسها ولو لم يتمسك به الطرف الطاعن. وبناء على هذا المعطى الجوهري فقد أثارت المحكمة من تلقاء نفسها مسالة نشر القرار الترتيبي عدد 25 الصادر عن الهيئة والمؤرخ في 26 سبتمبر 2022 بالرائد الرسمي كشرط لا محيد عنه لنفاذه. علما وان الهيئة استندت على هذا القرار غير المنشور بالرائد الرسمي لرفض ترشح الطاعن. ولا يزال هذا القرار يثير جدلا وتساؤلات حول قصور الإدارة الانتخابية في احترام أبجديات القواعد القانونية، المتمثلة في وجوب نشر القرارات الترتيبية لمجلس الهيئة بالرائد الرّسمي إلى جانب الموقع الرسمي لها، طبقا لأحكام الفصل 19 من القانون الأساسي المتعلّق بالهيئة، وذهب البعض إلى حد التأكيد على أنّ مثل هذه المسائل تضرب المسار الانتخابي برمّته.

1. قرار الدائرة الاستئنافية للمحكمة الإدارية

واثر استئناف الهيئة لقرار الدائرة الابتدائية بصفاقس أقرّت الدائرة الاستئنافيّة بالمحكمة الإدارية بتونس، الأربعاء 16 نوفمبر 2022، ما قضت به الدائرة الابتدائية من قبول ترشح الطاعن إلى السباق الانتخابي، لكن بسند جديد، وفق ما أكّده الناطق الرسمي باسم المحكمة، عماد الغابري. وأوضح الغابري، أنّ الدائرة الاستئنافية لم توافق اجتهاد دائرة صفاقس، فيما استندت إليه من جهة عدم شرعية قرار هيئة الانتخابات المتعلق بضبط شروط وصيغ الترشح على أساس عدم نشره بالرائد الرسمي، واعتمدت سندا آخر لقبول ترشح المعني بالأمر، بناء على استيفاء مطلبه كافة الشروط، أي اعتمدت المرسوم عدد 55 لسنة 2022 مؤرّخ في 15 سبتمبر 2022 يتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرّخ في 26 ماي 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء وإتمامه..

2. هل أكسى القرار 25 بالنفاذ حالا ؟

وبالرجوع إلى قرار الدائرة الاستئنافية الذي نشرت بعض مقتطفات منه هيئة الإنتخابات على سبيل الانتصار لنفسها ونقد خصومها ممن » استغلوا قرار محكمة صفاقس لأغراض سياسية «في نظرها قالت الدائرة الاستئنافية في قرارها «وحيث أصدرت الهيئة العليا للانتخابات قرارها عدد 25… وضمنت به في أحكامه الختامية إذنا صريحا بنفاذه حالا… «علاوة» على نشره بالرائد الرسمي وطالما ثبت أن العيب المنسوب للهيئة لا يتصل بنفاذ القرار الذي ينص صراحة على أنه ينفذ حالا في نطاق الاستثناء الذي يجيزه القانون فان عدم النشر بالرائد الرسمي يصبح من فئة المطاعن التي تهم مصلحة الخصوم ولا تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها بل يصير متصلا بمواجهة الغيربه ويجب لذلك أن يثيرها الطاعن.

  1. هل «تحيلت» الدائرة الاستئنافية للمحكمة الإدارية في قراءة القرار الترتيبي للهيئة عدد 25؟

وبالرجوع إلى الفصل 19 من القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 مؤرخ في 20 ديسمبر 2012 يتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات الذي ينص على أن يتولى مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وضع التراتيب اللازمة لتنفيذ التشريع الانتخابي وتنفيذ المهام الموكولة للهيئة يمضيها رئيس الهيئة أو نائبه عند الاقتضاء وتنشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسي.

وبالرجوع إلى القرار عدد 25 فقد ورد فيه ختاميا حرفيا «ينشر هذا القرار بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وبالموقع الإلكتروني للهيئة وينفذ حالا».

وبالمقارنة بين ما ورد في خاتمة قرار الهيئة عدد 25 وما جاء في قرار الدائرة الاستئنافية نجد أن الدائرة الاستئنافية أضافت على القرار الختامي للهيئة لفظ » علاوة » وهو ما يعني أن النشر بالرائد الرسمي لم يعد يتوقف عليه النفاذ إذ أن القرار مكسى في الأصل بالنفاذ العاجل أما النشر بالرائد الرسمي فيتعلق بالإعلام وفق ما يقتضيه القانون وليس بالنفاذ العاجل . ويرى الأستاذ سليم اللغماني في تدوينة نشرها على صفحته بالفاسبوك تعليقا على قرار المحكمة انه لم يجد في في خاتمة القرار ما يخول للهيئة تطبيق هذا القرار الترتيبي قبل نشره بالرائد الرسمي خاصة أن قرار الهيئة لم ينص على ما ورد في القرار الاستئنافي للمحكمة الإدارية من أن القرار 25 ينفذ حالا «علاوة» (شدد الأستاذ اللغماني على غياب كلمة «علاوة»)، عن نشره بالرائد الرسمي وبالموقع الإلكتروني للهيئة.

وختم الأستاذ بالقول انه لا شيء إذا يستثني القرار 25 من القاعدة العامّة التي تقضي بدخوله حيّز النفاذ بعد نشره بالرائد الرسمي ويكمن الاستثناء الوحيد في أنه ينفذ حالا بعد نشره.

4. الواو «اللعينة»

ومن الواضح أن الإشكال كله يكمن في دلالة حرف الواو في قرار الهيئة «ينشر هذا القرار بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية (و) بالموقع الإلكتروني للهيئة (و) ينفذ حالا» : هل هي دالة على الترتيب أي أن القرار ينشر بالرائد الرسمي والصفحة الإلكترونية للهيئة وبناء عليه يدخل بعد ذلك وليس قبله حيز النفاذ بمعني أن النفاذ لا يكون إلا عقب النشر بالجريدة الرسمية أم أن الواو لا تفيد الترتيب وإنما هي لجمع لا دلالة فيه على الأولوية في الزمن مما يجعل من النفاذ العاجل حاصلا بقطع النظر عن النشر في الرائد الرسمي الذي قد يكون لاحقا اذا اكسي القرار بالطابع الحيني وهكذا تدل الواو على الجمع المطلق من غير أن يكون المبدوء به داخلا في حكم الوجوب قبل الآخر ؟

وهو ما عمدت إليه الهيئة فعلا فقد نشرت قرارها عدد 25 بالرائد الرسمي بعد نفاذه بحسب نظرها ونظر الدائرة الاستئنافية للمحكمة الإدارية و عقب صدور قرار المحكمة الإدارية بصفاقس. لماذا نشرته بعد قرار محكمة صفاقس ؟ هل كاد المريب أن يقول خذوني؟.

وقد أثارت دلالة حرف الواو على الترتيب في بعض السياقات جدلا بين النحويين والأصوليين إلا أن المتفق عليه عموما لديهم جميعا أن من دلالاتها الترتيب . وللخروج من هذا الإشكال عمدت الدائرة الاستئنافية إلى إضافة كلمة علاوة » مما يجعل من النفاذ غير متوقف على النشر في الرائد الرسمي بل إن هذا النشر ليس غير تعزيز لهذا النفاذ بواسطة الإعلام الرسمي بالجريدة الرسمية إضافة (علاوة) إلى الإعلام الحاصل منذ 27 سبتمبر 2022 على الصفحة الرسمية للهيئة. كما استندت المحكمة في تعليلها إلى الاستثناء المتضمن في القانون 64 لسنة 1993.

5. في دلالة الاستثناء الإشكالي

من الأكيد أن قرار هيئة الانتخابات عدد 25 المؤرخ في 26 سبتمبر 2022 والمنشور بالصفحة الرسمية للهيئة أكسي بالنفاذ الفوري كما ذكرنا استثناء على القاعدة التي تنص على كل النصوص القانونية تدخل حيز النفاذ بعد خمسة أيام من إيداع الرائد الرسمي المدرج به نص القانون بمقر الولاية بتونس العاصمة .ولكن كيف يمكن أن نقرأ هذا الاستثناء الوارد بنص القانون ؟. ترى الدائرة الاستئنافية بالمحكمة الإدارية أن الاستثناء يسري على النشر دون النفاذ أي أن القرار يصبح نافذا بمجرد نشره على الصفحة الرسمية للهيئة و التنصيص صلبه على أنه ينفذ حالا و هكذا لا يتوقف النفاذ على النشر بالجريدة الرسمية الذي يمكن أن يكون لاحقا . في حين يرى كثير من رجال القانون أن هذه القراءة غريبة لسببين أولا لأنها قراءة خاطئة للاستثناء الوارد في نص القانون عدد 64 خصوصا، و لأنها عموما تبيح دخول النصوص القانونية حيز النفاذ قبل نشرها بالرائد الرسمي وهو أمر لا يمكن لأي رجل قانون أن يقره آيا كانت الوضعية التي نحن بصددها . أما فيما يخص القراءة الصحيحة للاستثناء المذكور فيرى كثير من رجال القانون أن الاستثناء الوارد بالقانون 64 لا يعني النشر لأنه لا نفاذ بدون نشر بالرائد الرسمي وفق ما ينص عليه قانون هيئة الانتخابات نفسه بل يعني النفاذ الذي يمكن أن يكون قبل مرور خمسة أيام من نشر نص القانون وإدراجه بالرائد الرسمي وإيداعه بمقر الولاية وللتبسيط نقول دون انتظار أجل الخمسة أيام اذا اكسي نص القانون بالنفاذ الفوري وهو ما ذهب إليه الأستاذ سليم اللغماني حين أكد في مدونته المشار إليها سالفا «ويكمن الاستثناء الوحيد في أنه ينفذ حالا بعد نشره» كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عاطف الرواتبي في شرحه المطول في مداخلة له في إذاعة المنستير [1] في موضوع الاستثناء.

6. هل قرار الدائرة الاستئنافية مسيّس ؟

ماذا نستخلص من كل هذا ؟. لقد أقرت الدائرة الاستئنافية للمحكمة الإدارية قرار الدائرة الابتدائية بصفاقس فثبتت ترشح الطاعن للانتخابات التشريعية وذلك لالتزامه بشروط الترشح وفق ما ينص عليه القانون الانتخابي المنقح في 2022 و هو بالضبط ما ذهبت إليه الدائرة الابتدائية بعد أن أسقطت من حسابها القرار الترتيبي عدد 25 للهيئة لعدم نشره بالرائد الرسمي . وقد تكون الدائرة الاستئنافية فعلت ذلك غلقا لباب أي طعن آخر لدى الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وعودة الجدل حول النفاذ العاجل والنشر بالرائد الرسمي (كفى الله المؤمنين شر القتال) حين أقرت صحة ترشح الطاعن ولكن في نفس الوقت أقرت صحة القرار الترتيبي عدد 25 وذلك رغم عدم نشره بالرائد الرسمي في قراءه عرضنا تفاصيلها. ولعل البعض يرى عليها جميع أمارات الحيل الفقهية القديمة وما أكثرها في تاريخنا ! حين يبغى الفقيه موالاة السلطان وصنائعه.

لم يهتمّ قضاة الدائرة الابتدائية بصفاقس في قرارهم التاريخي الذي سيظل علامة مضيئة في سجلات الأحكام الإدارية في تونس بما قد يكون لقرارهم المحيث بمنتهى الإحكام والحرفية من أثر على المشروع السياسي لقيس سعيد ولا من تأثير على سلامة عمل الهيئة برمتها إذ أن الإقرار بوجوبية نشر كل النصوص القانونية بالجريدة الرسمية حتى تكون نافذة دون أي استثناء ممكن على هذه القاعدة التي تبدو بديهية قد يسقط كل ما لحق القرار 25 غير المنشور بالجريدة الرسمية من قرارات صادرة عن الهيئة . ويفتح أبوابا من النزاع كان لابد أن تغلق فأغلقتها الدائرة الاستئنافية أو هذا ما أرادت أن تفعله. كان قضاة دائرة صفاقس في قرارهم » أوفياء لقيم مهنتهم وهو أمر قد يبدو في السياقات التي تحترم مبدأ استقلالية القضاء عاديا. لكنه حتما يتميّز، متى كان لمن يملك السلطة السياسية صلاحية مطلقة في تحديد مفهوم القضاء العادل وفي ترتيب ما قد يقرر من جزاء لمن لا ينسجم معه. وهو ما يميز الحكم الابتدائي عن حكم الاستئناف الذي اعتمد النتيجة نفسها ولكن بعد تنحية المستندات التي قد تلقي ظلال الشكّ على نزاهة العملية الانتخابية » [2]برمتها.

هوامش

  1. برنامج «قبل الموعد (انتخابات2022)» الأحد 20 نوفمبر 2022 مع رفقة الزناتي.
  2. «إدارية صفاقس تكشف خطأ جسيما في مسار انتخابات تونس» المفكرة القانونية 19 نوفمبر 2022.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock