الفنانون التونسيون والانقلاب
مهدي مبروك
فوجئ تونسيون عديدون بتصريحات فجّة أدلى بها فنانون تونسيون في أثناء الاستفتاء على مشروع الدستور، فيها تأييد مطلق للرئيس قيس سعيّد، ودعوة إلى التصويت بـ”نعم”. وتزامن هذا مع عرض أعمال فنية ومسرحية في مهرجانات صيفية، يكاد يكون موضوعها الرئيس شتم المرحلة السابقة والتحرش بحركة النهضة. وقد أبدى عديدون ممن شاهدوا هذه الأعمال استياءهم من هذه العروض، وغادرها مشاهدون احتجاجا على تدنّي هذه الأعمال وسقوطها في دعاية سياسية فجّة. وما زال هذا الأمر يثير جدلا واسعا، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الصحافة المكتوبة أو السمعية البصرية، والغريب أن هؤلاء كانوا من أكثر الفنانين حضورا في المشهد الثقافي بعد الثورة، بل هناك من يعدّهم من وجوه المنظومة الثقافية.
لم يكن للفنانين التونسيين دور مباشر في الثورة. ولا نجد في سنوات الاستبداد التي عاشها التونسيون تحت حكم بن علي من الفنانين ضحايا للقمع، وربما كان هذا أيضا سلوكهم خلال حكم بورقيبة. إنهم يبنون عوالمهم الخاصة أحيانا في أبراج عاج، وأحيانا أخرى في بوهيميا الفوضى. ومع ذلك، لا يكترثون إلا نادرا لزفرات الناس ومعاناتهم السياسية. أقصى جرأة هؤلاء بعض إيحاءات خافتة عن سلوكات المسؤولين المختزلة في المحاباة والرشوة. تقف جرأة بعضهم عند هذا الحد، وتعد بطولة، يظل يستثمرها الفنان، فتدر عليه عطفا وهالة ترفعه إلى عليين.
قلما انخرط هؤلاء في أحزاب أو جمعيات أو نضالات أو حركات اجتماعية خلال عقود طويلة. أسباب ذلك عديدة، كما يذهب هؤلاء إلى تقديمها: إما حياد الفنان وموضوعيته وحرفيته التي تدعو إلى أن تكون رسالته الأولى والأخيرة هي الأعمال الفنية التي يقدّمها، والتي قد تتناول، من حين إلى آخر، مسائل سياسية، ولكن من وجهة ما فنية، وهي قليلة، أو أن السياسة عموما والشأن العام ملتبسان، ولا يثيران شهية الالتزام لديهم… إلخ. يقدّم هؤلاء حججا عديدة لهذا النأي بالنفس عن الخوض في السياسة أو الالتزام المواطني بقضايا سياسية، حتى ولو كانت عامة، على غرار الحريات والعدالة والحرية. بعد الثورة، جرى التشهير بفنانين رأى الناس فيهم دعاية فجّة للنظام. اختفى بعضهم مدة، واعتزل آخرون، في حين أن هناك من تمكن من تغيير سجلاته ودفاتره.
غير أن السبب الرئيس، والذي يظل مخفيا، في تلك المواقف، هو الخوف من بطش النظام أو العقاب المالي للفنان من الإدارة الثقافية، إذ يكفي فقط أن يصنّف الفنان ضمن قائمة “المغضوب عليهم”، حتى تُغلق أمامه جميع المهرجانات، فضلا عن إقفال حنفية الدعم المالي العمومي الذي تعيش عليه أغلب الأعمال الفنية في تونس. على خلاف بلدان عربية عديدة، وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، ظلت تونس تقدّم مثالا مهما، إذ تمول الأعمال الفنية بسخاء نادر مقارنة مع محيطها العربي. ويشمل الدعم العمومي جميع القطاعات: الموسيقى، المسرح، الغناء… إلخ. وتظل السينما تستحوذ على القسط الأكبر من هذا التمويل. ويتجاوز هذا الدعم العمومي إنجاز الأعمال الفنية ليشمل تمويل الفضاءات الثقافية.. إلخ. لم يتغير الأمر بعد الثورة، بل جرى دعم ذلك من خلال إنشاء عدة هياكل وتقنينها، حرصا على الشفافية والفعالية: صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني والمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات.. إلخ.
تغير المشهد بعد الثورة بشكل حاسم، خصوصا بعد أن سجلت الأيام القليلة التي سبقت سقوط نظام بن علي انخراط بعض الفنانين مباشرة في الاحتجاجات، بعض فناني الراب والمسرحيين، كما عُنّف بعض منهم واعتقل آخرون. تواصل حضور هؤلاء في المشهد الثقافي والسياسي عموما، وبشكل بارز، حتى تحول بعض منهم “سياسيين” أكثر منهم فنانين: قيادة احتجاجات، تصريحات، بيانات، وحضور مكثف في وسائل الإعلام التي جعلت بعضا منهم “كرونيكورات”. أنتج فنانون منهم أعمالا فنية أجندتها الوحيدة تقريبا سلخ الحكام الجدد وتمجيد الماضي. منهم من تخصص في تقديم أعمال هابطة، فيها إسفافٌ كثير، من قبيل شتم الرئيس المنصف المرزوقي مثلا، وتخصص آخرون في ترذيل الثورة والحكام الجدد. لم تُنصف هذه الأعمال الثورة إلا نادرا. ولم يشذ سادة المسرح التونسي الجديد عن هذه القاعدة، فقد قدّمت أعمال مسرحية ضخمة، لا ترى في العشرية الفارطة سوى دماء ووحوش تزحف على البلاد.
لم تكن مصادفةً أن هؤلاء صفقوا للانقلاب، فهم أول من وقّعوا على بيانات الترحيب به، وظلت قائمتهم تتّسع من يوم إلى آخر. لا نعرف السبب حقيقة، فلا أحد من هؤلاء جرى تقييد حريته، أو مورست رقابة على أعماله أو جرت مساومته.. كان دستور الثورة أول دستور في تونس نصّ على حرية الإبداع ومنع كل أعمال الرقابة المسبقة على أي عمل فني.
العربي الجديد