نحو عقد جديد للحوكمة…

بشير العبيدي

#أقولها_وأمضي

حين نتأمّل الفروق بين أوضاع الشّعوب على وجه الأرض، نرى بوضوح أثر عنصرين اثنين، لهما أعظم الأثر على درجة مستوى العيش، هما : نمط #الثّقافة ونمط #الحوكمة.

ولا ريب في كون العنصرين يتغذيان من بعضهما البعض، فالحوكمة الرشيدة تستمد طاقتها من ثقافة التعدّد والتنوع والتدافع، والنمط الثقافي يستقي جذوره من حوكمة مهتدية لأركان سياسة الناس ورعاية مصالحهم.

وتبدأ المشاكل داخل الشعوب لأي سبب، لكن المشكلات المعقدة تكون باختلال هذين العنصرين: وذلك حين يتم الإضراب عن ثقافة إدارة #التعدد والتنوع وهضم الاختلاف مع القبول العام بالسير في رؤية واحدة للعيش المشترك، وتنقلب الأمور إلى ثقافة صفرية استبدادية شعبوية عنيفة، تدعي النقاوة والطهرانية وترفع شعارات التخوين والتهوين وترذيل الخصوم والاستعداد لحرق الأخضر واليابس مقابل التخلص من الخصوم. كما تبدأ المشكلات المزمنة داخل الشعوب مع التخلي عن #الحوكمة الرشيدة بخرق القوانين والدساتير والدوس على القيم والمبادئ، ومحاولة التمويه الحرباوي عن ذلك بإبراز نمط من الحكم المتديّك، حيث نرى الحاكم يحيط نفسه بهالة من البهرجة والتزيين المتطاوس، في مسعى للتظليل وإخفاء الحقيقة المرة التي اسمها الفشل في الحوكمة.

ولنفكر الآن “من خارج الصندوق” كما تقول العبارة السائدة: أحقا نحن بحاجة إلى حوكمة تافهة كهذه، تُنظّم لأجلها الانتخابات وتعقد المناظرات وتقال خلالها الأكذوبات التي يصدقها الناخبون ثم يَصِل إلى كرسي الحكم الكاذب والمخادع والمخاتل والمختل؟ كم تكلّف انتخابات “لاختيار” الحاكم وكم يدفع الشعب لقاء الانتخابات من أموال؟ وهل يكون الاختيار حقا اختيارا حين يكون الوعي مزوّرا والإعلام محتلّا والنخبة ماكرة والثقافة السائدة فاجرة؟

لنتأمّل ما تقوم به أندية كرة القدم مثلا، وهي ليست مثالا في النظافة والطهرانية، لكن على سبيل المقارنة الشكلية: إن الأندية الرياضية تتعاقد مع مدرّب ذي خبرة ودراية، وتشترط عليه شروطا مكتوبة، ونتائج محددة، وتجدد له العقد إن نجح أو تقوم بإنهاء التعاقد إن فشل، ولا تلتفت لجنسية المدرب ولا للغته ولا لأفكاره الخاصة. وكذلك تفعل كبرى الشركات العالمية النافذة، تأتي بأمهر المديرين والرؤساء وتشترط عليهم الشروط ثم تقيّم النتائج في نهاية الموسم، وعلى أساس تلكم النتائج يجدّد العقد أو يفسخ.

ومع تعقد الحياة المعاصرة، وتغلغل الأقلّيات الاقتصادية والمصلحية وتنفّذها في أجهزة الدول والمنظومات الاقتصادية والثقافية وغيرها، صارت #الانتخابات التي يَصِل عن طريقها الحاكم إلى رأس السلطة أشبه بالإجراء الشكلي البحت، لأن الأقلّيات المتنفذة والدول المهيمنة هي التي تموّل الحملات الانتخابية وتوصل لسدة الحكم من يخدم مصالحها قبل مصالح الذين انتخبوا الحاكم. وغالبا ما يَصِل الحاكم بشعارات شعبوية يروجها لاغتصاب وعي الناس، خصوصا في ظل الثقافات الغرائزية التي تغيّب التحليل الموضوعي للأشياء وتقدّم المهاترات الجوفاء على أنها برامج تجديد وبناء!

ما الذي يدفع #الشعوب لمثل هذا؟ إنه حلم مشروع: حلم بحياة تعددية ناجحة واستغلال رشيد للثروات والسلطات. لكن ما العمل إذا كانت الثقافة السائدة تشكو التشوّه والحوكمة السائدة تشكو الفساد المقنّع حينا والفساد المتعجرف المتصلّف حينا آخر؟

أليس من الأنسب أن تلتفت الشعوب أولا، عن طريق الالتفاف حول قياداتها المخلصة، فتهتم بالثّقافة السائدة داخلها، فتستأصل أولا العوامل الغائرة التي تغذي انتشار الفساد، ثم تصعّد رويداً رويدا، على مراحل زمنية مريحة، عبر الأحزاب والأشخاص وكل الوسائل الممكنة، مع الاعتماد على ذوي المروءة والرأي، وممثلين إلى المجالس النيابية والبرلمانات، وإنجاز رقابة صارمة على الجميع، ثم يتعاقد ممثلو الشعب مع حكّام لهم قدرة وخبرة ورؤية لحوكمة البلدان، بصرف النظر عن كل اعتبار؟ لقد صارت الحوكمة صناعة وفنّا قبل أن تكون أي شيئ آخر!

أعرف أنها فكرة مجنونة. وربما يعارضني صاحب رأي فيقول: هذه الفكرة خرقاء لأنها تهدد #الأمن القومي للشعوب وهي ضد فكرة الاستقلال وحرية الشعوب!

حسنا، فلتكن فكرتي هذه خرقاء. لكن ما بال هذه الخروقات التي يقوم بها الرؤساء المناكيد لجميع الدساتير التي انتخبهم الناس على أساس احترامها، نراهم يدوسون عليها وعلى الشعوب التي انتخبتهم؟ أين الأمن القومي حين يُنتخب رئيس فيحكم على شعبه بصد كل محاولات الإصلاح، أو يحكم عليهم بفناء نصفهم عبر إلقاء البراميل المتفجرة واستقدام المحتلين وتدمير المدن وقتل النسل وهلاك الحرث؟ هل الأمن القومي في هذه الحالة من الدناءة الانتخابية مصان والأمن قائم والحوكمة رشيدة، فقط لأن الناس ذهبوا إلى الصناديق وانتخبوا كذابا مخادعا لكي يحكم عليهم بقبول قبائحه؟

إن الثقافة السائدة ونمط #الحكم صنوان لا يفترقان. كما تكونون يولى عليكم. لقد كتبت ابن #قيتبة #الدينوري في مقدمة كتابه الشهير: عيون الأخبار: صلاح الدين بصلاح الزمان (ما أعنيه بنمط الثقافة)، وصلاح الزمان بصلاح السلطان (ما أعنيه بنمط الحوكمة)، وصلاح السلطان بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير (ما أعنيه بمعركة الوعي). ولله الأمر.

✍🏽 #بشير_العبيدي | باريس، شوال 1442 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تصْنَعُ أمَلًا |

Exit mobile version