نور الدين الغيلوفي
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
– عن راشد الغنوشي الذي يهابه عقلاؤهم وتُتَيَّمُهُ نساؤهم وينكّل به جهلتُهم ويُغرَى به صبيانُهم –
-
لا أظنّ أنّ الشيخ الأستاذ راشد الغنّوشي يستحقّ ما يلقى من تنكيل دولته به. الرجل، تقريبا، أسيرٌ بلا تهمة. كلّ تهمته أنّه راشد الغنوشي. تلك وحدها كافية لإدانته.
-
الرجل لم يتورّط حتّى في التلفّظ بكلمة يمكن أن يحاسب عليها بمقتضى المراسيم الموضوعة لمنع الكلام. ولم يأتِ فعلا يحاسب عليه قانون دولة شعارها (نظام. حريّة. عدالة).
فلماذا يودَع السجنَ؟
ولماذا تتناسل تُهمُه الجائرة التي لا معنى لها غير منعه حريته؟ يحاكم في كلمة قالها في مأتم يؤبّن ميتا حتّى إذا انتهى الحكم جُعلت له تهمة أخرى تبرّر مسكه بين جدران سجنه. في انتظار تهمة أخرى تضمن بقاءه في السجن إذا انقضت المدّة وأمهله الموت. -
الغنوشي يظلمه الحاقدون الذين لا يملكون عليه حجّة واحدة تبرّر تنكيلهم به، وتصفّق الغوغاء لظلمه. والحاقدون لا يحفظون نظاما ولا يصونون حرية ولا يحمون عدالة، كلّ همّهم أن يسمعوا تصفيق الغوغاء فيبلغوا نشوتَهم بسماع تصفيق المصفّقين.
-
لا شكّ أنّ للغنوشي خصوما مثلما أنّ له أنصارًا. ولكن أن تكون خصما لأحد من أبناء وطنك لا يعني أن تنكّل به. التنكيل يصنع الأحقاد ويورّث العداوات، ونحن أمّة ما أهلكتها غير العداوات بين أبنائها. ولو أنّهم اعترفوا باختلافاتهم فأحسنوا إدارتها لكان بعضهم لبعض ظهيرا ولما هانوا كلّ هذا الهوان.
-
أن تكون خصما للغنوشي فهذا من مطلق حقّك. إذ لا أحد في العالم أجمع الناس عليه ولو كان قدّيسًا.. بل الله ذاته لم يُجمع عليه خلقُه. ولكنّ الخصومة لا تعني الانتقام العاري. الانتقام من نظيرك في الخلق لأنّك ترى فيه خصما لك لا يحقّق عدلا ولا يبني وطنا. الأوطان يعمرها العدل ويخرّب عمرانها الظلم.
الأحقاد نبتٌ خبيث إذا انتشرت سمّمت كلّ شيء وجعلت الحياة مستحيلة. -
الغنوشي إنسان.. لن يكون مجديا حديثُ الثناء عليه.. يكفيه أنّه مواطن تونسيّ له حقّ المواطنة. الدولة من واجبها أن تحميَ مواطنيها فإن هي امتنعت عن حمايتهم وتخلّت عن رعايتهم، على اختلاف ما بينهم، وجعلت من نفسها خصما لهم ينكّل بهم كفّت عن أن تكون دولة.
-
سجن الغنوشي يزيد من رصيده ولا يُنقصه. كان يمكن أن يقول، مثلا، ما قاله رئيس البرلمان الذي جاء بعده “هنيئا لتونس بهذا الوضع الذي يدعو للطمأنينة”، وبذلك ينام في بيته مطمئنّا ولا تُفتح له أبواب السجن في انتظار أن تلحق به تهمته. ولكنّه اختار، كما فعل في حياته دوما، اختار الطريق الوعرة ليكون علَمًا من أعلام الحرية في بلد ضاق بالحريات أهلُه فتداعوا على الغنوشي كأنّهم حين أودعوه السجن حرّروا البلد من مشاكله وحقّقوا ما بشّروا به.
-
هذا الحديث ليس حديثا أخلاقويّا، بل هو حديث العقل. العقل وحده كفيل بأن يجتمع الناس عليه. أو ليس قد قيل إنّ “العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس”؟
والذين يتشفّون، الآن، في الغنوشي ويكتفون بالتشفّي لن يربحوا شيئا من التنكيل به ولن يترك لهم عمره إنّ هو قضى، في السجن نحبه. سيذهب إلى ربّه وسيشكونا بين يديه نحن المشاركين في ظلمه لا فرق بين المنكّل به والمتشفّي فيه والمتخلّي عنه. كلّنا في ظلم الغنوشي سواء.
والدولة التي تضيّع الغنوشي لن تبنيَ مع التنمية جسرا. ستغرق في أوحال مظالمها.. ولن يكون لها، في المدى المنظور، عبور.