سفيان العلوي
هناك اكثر من مبرر لطرح السؤال من جديد. هل تغير السياق؟ هل طويت صفحة الثورة أم خفت بريقها؟ هل تغلب القديم أم تغلب الجديد أم مازلنا نراوح ذات المكان؟ من يمثل القديم ومن يمثل الجديد؟ كلها أسئلة مفخخة لكنها مشروعة لكن اللبس الحقيقي في نظري هو تمثلاتنا لطرفي المعادلة ومقاربتها الرياضية او الحسابية (الجمع أو الطرح أو القسمة أو الضرب أو الجذر أو القوة في الحد الأدنى الى أن نبلغ المعادلات الإحصائية الأعقد مثل الاحتماليات ومعاملات الترابط وغيرها..) يعني وبعض تبسيط غير مخل: الجديد إلا القديم أو الجديد مع القديم أو الجديد على القديم… وهكذا. والأكيد أن النتائج ستكون مختلفة في كل تصور للمعادلة. هل هناك تصور افضل أو اصح؟ حتى وان وجد، من الاستحالة أن يحظى بالإجماع وكل إجماع هنا هو مغشوش وهو يقفز على حقائق التنافس والصراع على ارض الواقع.
نعم جدلية القديم والجديد اعقد مما نتصور والعلاقة بينهما هي من صميم الحراك الاجتماعي والسياسي العام وهي لعبة توازن متغيرة. هل تطابق العلاقة بين القديم والجديد ما نسميه ثورة وثورة مضادة؟ من السذاجة القبول بجواب مباشر تقديره نعم. يحدث ان تتغير المواقع بسرعة فيتحول الجديد الى ثورة مضادة ويتبنى القديم قيم الثورة وينخرط فيها. لسنا أمام معسكرين ثابتين وكل استقطاب على هذا الأساس هو عنوان أزمة تشي بصعوبات الانتقال وفخاخه العديدة. ما يعقد المعادلة التوازنات الاجتماعية ولعبة المصالح التي هي من صميم الاجتماع البشري وعجز التمثلات والنظريات على فهم الواقع ونكوصها الى الكراسات البالية والبراغماتية الفجة التي تلغي القيم وتتحول من النقيض الى النقيض بسرعة وحتى الطهورية التي تقفز على تعقيدات الواقع هي أيضا جزء من مفاعيل الأزمة.
ما الذي تعنيه الثورة والثورة المضادة اذا؟ في تقديرنا يمكن النظر الى الثورة بما هي نزوع جماهيري للتغيير والتقدم وإعادة توزيع للثروة والسلطة في أفق ديمقراطي دينامي أما الثورة المضادة فهي محاولة تأبيد للسائد هياكل حكم وعلاقات ومصالح وتخريب قواعد التعايش المشترك وترذيل الجديد وتقزيمه وإفشاله والعبث بالراي العام وتأخذ الثورة المضادة صفة الثورة أو الثورة الموازية ولكنها في العمق حالة مقاومة أو تخريب لمسار التغيير. كلا طرفي المعادلة يعبران عن مسار دينامي وقوى متحركة وفاعلة وقادرة على تغيير التوازنات في لعبة شد حبل مستعصية. يبقى أن المشكل هو في تحديد هل أن اللعبة تدار بقواعد القديم أو بقواعد الجديد.
في تونس هناك إجماع على صعوبة المرحلة رغم عمق التحول الدستوري وإعادة توزيع أدوار واسعة بين طرفي المعادلة. وكنت من الذين راهنوا على تغيير سلس لا يستعجل النتائج وينتظر أن تغادر قوى الدولة العميقة هياكل الدولة عبر التقاعد وتسلم مقاليد الإدارة تدريجيا وبحكم القوانين الى القوى الاجتماعية الصاعدة والتي تبحث عن تحرير الحراك الاجتماعي وعن مشاركة واسعة في السلطة والثروة. وهي قوى طموحة ومنفتحة على التغيير وقد شهدت تهاوي السرديات الوطنية التي أسست لاحتكار الثروة والسلطة ومنعت قيام الديمقراطية. لكن واقع الممارسة يكشف أن هذه القوى المتنفذة فيما نسميه سيستام أو دولة عميقة هي حريصة على توريث المنافع والمواقع لأبنائها وعلى إعادة إنتاج نفس العلاقات القرابية والزبونية. واعترف اني كنت في ذلك مخطئا بعض الشيء.
واقع الحال أن جوهر الصراع يبقى اجتماعيا بالأساس والاستقطاب الهووي يستدعى فقط لجلب الخصوم الى مربعات أخرى يسهل فيها الوصم والاغتيال الرمزي والترذيل والاستبعاد بمسميات عدة. ونفس الشيء ينطبق على مبدا الكفاءة الذي يكيف لتجديد شرعية القديم وإعادة إحلاله في المنظومة بعنوان الخبرة وتقزيم الوافدين الجدد على الدولة. طبعا لا يفهم من القول استنقاص عنصر الكفاءة في المعادلة بل ولإزالة كل لبس رفض الاستخدام السيء لحجية الكفاءة في المعادلة السياسية.
لقد أثبتت المنظومة الدستورية الجديدة وليدة الثورة قدرتها على الصمود وجر الثورة المضادة ومعها القديم الى قواعد لعبة جديدة. واصبح الاعتصام وإضراب الجوع والمساءلة البرلمانية والإعلامية المفتوحة أسلحة مباشرة في يد القديم. ولم نغادر بعد لعبة الشطرنج الى المقامرة أو لعبة المصارعة في الوحل. وليس هناك قديم ثابت وواضح كما انه ليس هناك جديد واضح وثابت ولا يزال المشهد يتخلق لكن قواعد اللعبة تغيرت. وما انفك أصدقاؤنا من الجنوب يرددون مثلا قاسيا ومعبرا “العضم الرهيف الله يكسره” بما يعنى ضرورة استكمال الجديد لمعادلة المعنى والقوة.
نعم مازلنا في معادلة ثورة ثورة مضادة لكن قواعد الاشتباك تغيرت.
سفيان العلوي
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.