نور الدين الختروشي
صورة عناق راشد الغنوشي والجلاصي هي ما تبقى من المؤتمر العاشر لحركة النهضة في ماي 2016، تلك الصورة ذات دلالة تاريخية وسياسية عميقة، اختزلت كل المعنى في قراءة وتأويل حقيقة ما انتهت له زعامة الشيخ راشد الغنوشي للحركة منذ تأسيسها.

يبدو الغنوشي في تلك الصورة متأثرا حد البكاء وهو يمسك بقبضته قميص الجلاصي الذي يبادله ابتسامة نصفها ساخر ونصفها متوعد.
ومن تلك الصورة وحولها وفيها بدأت النهضة تكتب سطور قصتها كحزب سياسي مثيل لأي حزب في الساحة، بعد أن كانت تمثل الاستثناء الحزبي المتميز عن بقية أحزاب المشهد.
ديناميكية التفكك والتحلل الذاتي التي واكبت مسار كل الأحزاب بعد الثورة، تمنعت النهضة كثيرا عن الإندراج في أفقها، حتى جاءت تلك الصورة لتعلن عن بداية انتظام حركة النهضة في مسار روتين دورة الكآبة والقلق في مجتمع الأحزاب.
بعد يومين ستحتفل النهضة بالذكرى التاسعة والثلاثين للإعلان الرسمي لتأسيسها كحزب سياسي، وهي قد تأسست فعليا قبل ذلك التاريخ بأكثر من عقد كجماعة دينية همها إعادة الاعتبار للتدين الذي جففت منابعه دولة الاستقلال تأثرا بمصطفى كمال أتاتورك زعيم منظمة الاتحاد والترقي في تركيا الذي أطاح بالخلافة العثمانية ودشن زمن العلمنة واللائكية في العالم الإسلامي وشرع لولادة الإسلامية الحركية في مصر الإخوان وباكستان المودودي.
يوم 6 جوان 1981 كان تدشينا لزمن السياسة في تاريخ حركة النهضة، ومنذ ذلك التاريخ بقيت النهضة ومازالت المركب المركزي للمشهد السياسي التونسي، كتجربة حركية إسلامية طريفة، ومستشكلة في الحيز السياسي الوطني. فمن عقود المعارضة للنظامين البورقيبي والنوفمبري، الى توليها الحكم بعد الثورة سطّر ذلك الحزب خطا متكسرا من الصعود والنزول ولكنه صمد أمام كل إستراتيجيات شطبه من المسجد والسوق، رغم أن خصومه استعملو -مازالوا- كل أدوات الحرب المعلنة والخفية ضده، لإنهاء وجوده الأيديولوجي والسياسي والهيكلي.
لم تتحطم سفينة النهضة على صخرة العدائية المرضية لمبدأ وجودها السياسي، ولكن صورة الغنوشي والجلاصي يوم اختتام أشغال المؤتمر العاشر اوحت ان المؤتمر العاشر لم يبشر فقط بموت الأيديولوجي والقطع مع الشمولية العقائدية بل أشر على نهاية الوحدة التنظيمية وبداية التصدع الرأسي في مسار تطور تلك الحركة.
بدالة الشفافية والعلنية تداول رموز الحركة على المنابر الإعلامية، ليعلنوا عن اختلافهم مع زعيم الحركة. وكان هذا المستجد رسالة قوية للمتابعين للحركة مدارها القطع مع ثقافة السرية والتكتم التي تمايزت بها حركة النهضة عن بقية مكونات المشهد الحزبي.
أول ما يمكن ملاحظته على هامش ما طرحه المختلفون مع الغنوشي أن محاور الخلاف لم تكن برامجية ولا علاقة لها بخيارات الحركة ولا بتوجهها السياسي فالخلاف والاختلاف محوره ومركزه أسلوب تسيير الزعيم للحركة، وعنوان التداول على رئاستها، وهو ما أضعف كثيرا موقف المخالفين مع الغنوشي وسهل على أنصارها القول أن هاجس المنتقدين الموقع وليس المشروع.
في الحقيقة لا يهمنا من قريب أو بعيد البحث في النوايا وَالطموحات المرضية منها والسوية، فبقطع النظر عن صوابية هذا الموقف او ذاك، نسجل فقط بعض الملاحظات على هامش خطاب معارضة الغنوشي من داخل الحزب.
أولا : معارك الزعامة في تاريخ حركات سرديات التغيير الكبرى، غالبا ما تحسم عند زمن التدشين، والغنوشي فرض نفسه بالنتيجة والواقع، وحسم معركة الزعامة مع جيل التأسيس كزعيم وحيد لحركة النهضة طيلة النصف قرن من عمرها، حيث تعرضت زعامته للمنافسة الهادئة حينا والحادة أحيانا من قبل “أترابه” من جيل التأسيس كان آخرهم الدكتور صالح كركر في أواسط التسعينات، والذي انتهى مقعدا في كرسي متحرك قبل أن يتوفاه الأجل بعيد الثورة. وتعرض الى منافسة جدية وشرسة، منذ المؤتمر الثامن للحركة على موقع الرئاسة من الجيل الثاني، الذي ينافسه على مواقعه بدالة ديمقراطية التيسير َاو التداول على المناصب والمواقع القيادية، ومازالت تلك المعركة متواصلة وما الاستقالات المتتالية من رموز الحركة بدءا بمورو والجبالي الى الجلاصي وغيره إلا صدى لحدة الاختلاف حول موقع الرئاسة أساسا وتحديدا.
ثانيا : الزعامة التاريخية عموما لا تتعرض للمنافسة، أو بالتدقيق لا معنى للمنافسة عليها وحولها، لأنها بالنهاية ليست إفرازا لتطور تاريخ المؤسسة بقدر ما هي كسب ومحصول حصاد المعارك الكبرى التي خاضتها النهضة بدالة مشروعها الأيديولوجي، ومعاركها الكبرى المتصلة بالرسالة والتبشيرية التي واكبت تاريخ الحركة. فالزعامة تجسيد لحزمة قيم وليست تمثيلا لحاوية القيم الهيكلية والمؤسساتية ولا تعبيرا عن سياسات وبرامج حكم حزبية. فالزعيم يجسد المبادئ والقيم الكبرى التي تؤسس للوجود السياسي والمعاني الكبرى. أما الرئيس فمثل الارادة العامة في إنجاز مطلوب محدد وملموس يتصل دائما بتحسين شرط الموجود السياسي فالأول صانع لوجود تاريخي والثاني مدير لموجود سياسي.
ثالثا : الغنوشي وبتأكيد متكرر من منافسيه على رئاسة الحركة، حسم عنوان الزعامة التاريخية لحركة النهضة، فالمعارك الكبرى والتي تتصل دائما بالمصير العام، وشرط الوجود التاريخي، لا تتكرر في تاريخ السياسة، إلا عند المنعطفات الزمنية الكبرى واللحظات التدشينية لحزمة المعاني المتصلة بقيم التحرر من إكراهات الوجود المادي والرمزي في تاريخ الشعوب. وقد كان من حسن حظ الأستاذ راشد الغنوشي انه كان حاضرا في كل تلك المنعطفات، وكان آخرها ما أصبح يعرف في ذاكرة التونسيين بلقاء باريس بين الشيخين، والذي انقذ الثورة التونسية من مصير التهارج والمباراة بالدم الذي عممته الحماقة في بقية بلدان الثورات العربية. فالزعيم يوقع دائما لحساب الذاكرة وهي عجينة التاريخ ورحيق السياسة وما يتبقى لرصيد الاعتبار العام، فالذاكرة ليست التاريخ بل ما يحصحص منه لحساب المستقبل.
رابعا : واذا كان ملف الزعامة في تاريخ المدرسة الاخوانية بتونس قد أغلق بتسجيل اسم الغنوشي كزعيم ورمز لتلك التجربة، وتمتد شرعيته على مدى نصف قرن بجرد الزمن، وعلى القارات الخمسة بحساب الجغرافيا، فأن موقعه من قيادة الحركة كان في الماضي القريب قبيل الثورة، وبعدها، والى حد الساعة، موضع اختلاف وتجاذب تتداخل فيها شرعية ومشروعية مطلب التداول والتناوب القيادي مع هواجس الطموح الشخصي، والمنافسة في الموقع لوراثة المنصب القيادي الاول في الحزب. وقد خلف هذا الاختلاف والتنافس المعلن بين قيادات الجيل الثاني خصوصا، ندوبا حادة على وجه الحزب، خاصة وان مبدأ الحق في المنافسة تكبحه في المقابل قيم الزهد والتعفف التي يكثفها مبدأ قرآني حاضر بقوة عند جماعات الإسلام السياسي ينهي عن تزكية النفس. حتى أن قاعدة الترشح التي تمثل آلية أساسية في فلسفة العمل الحزبي السوي لم يستسغها أبناء النهضة او الجزء الغالب منهم على اعتبارها جماعة أخلاقية قبل أن تتحول الى حزب سياسي.
خامسا : كان مفهوما ان يتوتر النهضويون في تفاعلهم مع أسئلة المنافسة، والتناوب على مواقع الحزب والدولة، وكانت الانتخابات التمهيدية لتحديد القوائم البرلمانية أخر محطات ذلك التوتر الذي يكاد اليوم ان يعصف بوحدة الحزب وانسجامه.
سادسا : لم ينتبه المعنيون بالخلاف حول نهاية عهدة الغنوشي القانونية وإمكانية التجديد بتحرير القانون في المؤتمر القادم الى خيط الفصل الدقيق بين زعامة الحركة ورئاستها، فتحرك المتحمسون للتجديد والتناوب على حدود معاني الاغتيال الرمزي للاب، و تحرك المنافحون عن الزعيم على تخوم عبادة الزعيم وتقديسه.
سابعا : قد لا يختلف الدارسون للتاريخ السياسي الحديث في تونس ان بورقيبة والغنوشي قد تربعا على عرش الزعامة السياسية، سواء بمعنى الحجم والوظيفة، او بدالة الإشعاع الوطني والكوني، او بأثر التاريخ وجرد حواصله. والثابت أن بورقيبة قد رسب في امتحان الخروج من باب التكريم، فغادر من شباك الانقلاب عليه. واحسب ان الغنوشي اليوم لن يفوته الانتباه الى ان بوابة الخروج الطوعي المرح مفتوحة أمامه بالورود، وان شباك المغادرة الأسود الحزين، ينشط العديد من رفاقه في إعداده على مقاس تصفية الحساب الرمزي والسياسي. والغالب والأرجح عندي ان ذكاء الغنوشي لن يخذله في الوقت الضائع من لعبة القسوة والنشوة.. لعبة السلطة..
والخلاصة من السابق أن معالجة ملف خلافة الغنوشي على رئاسة الحزب، يمكن ان يستفرغ من مفاعيل التشويش والإرباك والارتباك اذا انتبه المعنيون من الجهتين الى دقة الفصل المنهجي بين عنوان الزعامة المحسوم تاريخيا لصالح الشيخ، وعنوان الرئاسة المحسوم قانونا في لوائح الحزب وان الحوار الجدي في هذا الموضوع يتصل بالصيغة المرجعية لموقع الزعامة بعد الرئاسة التي تسود ولا تحكم، و في تجارب حركات التحرر والدول تراثا غنيا ومتنوعا يمكن الاستفادة منه لتجاوز محنة خلافة الغنوشي، والتي توشك أن تعصف بأكبر حزب الذي مثل ومازال العمود الفقري للزمن السياسي الوطني الجديد في تونس ما بعد الثورة.
تونس الديمقراطية في حاجة لأحزاب قوية ومتماسكة، وستكون جريمة في حق الديمقراطية الناشئة أن تعصف الخلافات حول موقع ودور الغنوشي في المستقبل بآخر التجارب الحزبية الوازنة، في مشهد حزبي عبثي، تتحكم فيه جدلية انفجارية شاذة ومخجلة، تحيل على عجز تونسي فاضح في نسيان النرجسيات والزعامتية المرضية التي دمرت كل محاولات التنظيم السياسي والتجميع الحزبي.
الرأي العام
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.