إسماعيل بوسروال
القومية… وخيبة الأمل
كنت معجبا أيما إعجاب بـ القومية العربية وكنت أيام المراهقة والشباب أتفاعل بإحساس مذهل مع خطب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
كنت متعاطفا مع الفكر القومي ومع قائدها الملهم ومع أفكاره ومواقفه… إلى أن حدثت هزيمة 1967 فطرحتُ على نفسي -بصفة تلقائية- نقاط تعجب ونقاط استفهام حول الأداء العسكري للقيادات والتشكيلات في جيش “الجمهورية العربية المتحدة”… ومع الزمن تساءلت عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر عبد الناصر وعراق صدام حسين وسوريا حافظ الأسد وليبيا معمر القذافي… فخاب أملي في التجربة القومية.
فشل القومية الناصرية
لم تنجح التجربة الناصرية عسكريا بسبب إسناد مهام قيادية عليا لأشخاص لا تتوفر فيهم صفات “النظافة” و”الكفاءة” مثل عبد الحكيم عامر (نائب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة)… وتسلل الخلل الى شخص رئيس ديوان رئيس الجمهورية “أشرف مروان”، صهر عبد الناصر، الذي أكدت المصادر الصهيونية انه كان (عميلا للموساد).
أما على المستوى السياسي فكانت الناصرية ترفض الديمقراطية فقد سخر المنظّر محمد حسنين هيكل من موريتانيا عندما أقرت التعددية الحزبية متعللا بأن الديمقراطية لم يكن إقرارها في مصر-عبد الناصر لأن العامل الرئيسي لم يتوفر وهو التنمية الاقتصادية-الاجتماعية المطلوبة… وغاب املي نهائيا في الفكر القومي الناصري سنة 2013 عندما ساند م.ح.هيكل الانقلاب العسكري في مصر قائلا: (ان الرئيس ع.ف.السيسي فرضته الضرورة).
فشلت القومية العربية الناصرية عسكريا وسياسيا واقتصاديا، ونجحت ثقافيا عبر نهضة أدبية وفنية، في حين سجلت في المجال الإستراتيجي ثغرات تم من خلالها اختراقها وتمكن الأعداء من هزمها بسهولة عدة مرات وفيما يلي بعض المراجع التي تؤرخ للسقوط المدوي للقومية العربية التي لم يستوعبها أنصارها المعاصرون في تونس.
- كتاب (الملاك) the angel: وتم تحويله إلى فيلم سينمائي (2018) يتباهى بإنجازات الموساد الصهيوني. للمخرج السينمائي الإسرائيلي الأمريكي أريال فرومان Ariel Vroman.
- كتاب (السادات: الحقيقة والأسطورة) لصديقه موسى صبري وفيه روى الكاتب حوارا دار بينه وبين السادات حول “أشرف مروان” بوصفه “وزيرا لشؤون رئاسة الجمهورية وهو محل شبهات جوسسة وفساد وعمليات مشبوهة فأجابه السادات انه يحتاج الى المال وأشرف مروان ينجح في توفير المال من مصادر مختلفة.
- مذكرات ضابط الموساد الصهيوني دوبي Dobieg التي نشرها الكاتب الصحفي الإسرائيلي يوسي نيلمان في صحيفة هاآريتز الصهيونية والتي فصّل لقاءات مع أشرف مروان والمبالغ المالية التي تسلمها مقابل الخدمات التجسسية التي قدمها للموساد.
- كتاب خريف الغضب للكاتب المصري محمد حسنين هيكل والذي تحدث فيه عن اعتقاله من طرف الأمن المصري بأمر من السادات -قبل اغتياله- وأشار في ثنايا السرد التاريخي الى صفات سلبية كثيرة للسادات ولم يغفل عن ذكر لون امه “السمراء/ السوداء” وعلل انه ساند السادات في مايو سنة 1971 ضد علي صبري (أمين عام الاتحاد الاشتراكي العربي) وشعراوي جمعة (وزير الداخلية) وأغلبية أعضاء اللجنة المركزية للحزب… وأن مساندته تلك للسادات كانت اضطرارية لأنه له صفة التسامح وقبول الرأي الآخر عكس الفريق المقابل الذي كان “استبداديا” وقال هيكل (السادات عندنا فقد ميزة التسامح سار نحو النهاية) وهذا يطرح تساؤلات حول القيم الأخلاقية والمبادئ السياسية لبعض رموز هذا التيار.
كانت فكرة البعث كفرة قومية نابعة من التيار الديني المسيحي في الشام لمواجهة التيارات الاسلامية كالإخوان المسلمين في مصر وحزب التحرير في فلسطين والأردن والحركة الوهابية في الحجاز… كانت الفكرة القومية البعثية في أواسط الأربعينيات توفر فضاء آمنا للأقلية المسيحية سريعا ما تبناها بعض القادة السياسيين المسلمين لأنها تقر مبدأ (العلمانية) المتمثل في فصل الدين عن الدولة… لكن لم يكن البعث مناصرا للإلحاد وهذا ما أسهم في شعبيته وتقبله في مختلف الأوساط.
كان البعث غريبا في التعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية حيث لم يطبق شعاره الرئيسي المتمثل في (الحرية والاشتراكية والوحدة) إلا في الإسراع بإعلان الوحدة الاندماجية بين سوريا ومصر “دون توفير عوامل نجاحها واستمرارها”.
عاش البعث صراعا بين زعاماته وانقلابات متعددة ورسّخ عداوة شرسة بين جناحيه في بغداد ودمشق.
يمثّل الاختراق الصهيوني للجيش السوري أهم عوامل هزيمته سنة 1967 بسبب توغل الجاسوس “ايلي كوهين” في مؤسسات الدولة وذلك انطلاقا من تنكره باسم “كامل أمين ثابت” في الأرجنتين وربطه علاقات متطورة مع “أمين الحافظ” في سفارة سوريا في الأرجنتين… قبل ان يصبح أمين الحافظ رئيسا لسوريا وقرّب إليه ايلي كوهين وكاد أن يسند إليه مهمة نائب رئيس الوزراء إلا أن المخابرات المصرية نبهت المخابرات السورية الى أن “كامل ثابت أمين” هو جاسوس صهيوني فتمت محاكمته وإعدامه سنة 1965.
البعث العربي الاشتراكي وضعف الأداء
كانت سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا مؤشر حقيقي على ضعف (مفهوم الدولة) لدى البعثيين السوريين من مدنيين وعسكريين. الى أن وصل الى الحكم، في انقلاب عسكري، حافظ الأسد 1971…
وقد اتخذ على الفور موقفا معاديا لتركيا، ربما متأثرا بأدبيات حزب البعث التي ركزت على العداء للعثمانيين باعتبارهم كانوا استعمروا ارض الشام والحجاز متناسيا الاستعمار الغربي (الفرنسي والإنجليزي) الذي دمّر الشام وسلّم فلسطين للصهاينة ونهب ثروات نجد والحجاز…
استضاف حافظ الأسد زعيم حزب العمال الكردستاني التركي وساند انفصال الأكراد وظل عبد الله أوجلان حوالي عقدين لاجئا في سوريا متبنيا الحرب ضد الدولة التركية ولم بغادر سوريا إلا سنة 1998 بعد تهديدات جدية من قادة الجيش التركي واستعراض حشود عسكرية تركية على الحدود وتهديد جدي من الرئيس التركي آنذاك سليمان ديميرال بالتوغل داخل الأراضي السورية وتدمير قواعد الأكراد هناك… وتم اعتقال أوجلان من المخابرات التركية عندما كان مختبئا في سفارة اليونان في كينيا.
أوضاع سوريا بعد 2011
انطلقت ثورة شعبية في سوريا سنة 2011 مع موجة الربيع العربي… من مدينة درعة وعمت كامل أرجاء البلاد… كانت ثورة سلمية تحظى بالتعاطف “الشعبي” محليا ودوليا…
لكن سرعان ما ظهر استعمال السلاح في المظاهرات من الطرفين (الشعب والنظام).
هنا كان مربط الفرس، لا يمكن لاي إنسان عادي أن يؤيد “تمردا مسلحا” نظرا لثقل الكلفة على السوريين جميعا لكن عديد الأطراف عملت على إشعال الحريق للقضاء على سوريا (نظاما وشعبا وتاريخا وحضارة ومستقبلا).
دعّمت الجامعة العربية التمرد المسلح في سوريا وتبنت دول الخليج تمويل المجموعات المسلحة السورية، بأوامر أطلسية غربية واستراتيجية صهيو-صليبية لإنهاء سوريا كدولة وإنشاء خمس كيانات منها كيان داعشي على حدود ايران وكيان كردي على حدود سوريا لإشعال الحرب الطاحنة في الإقليم لعقود طويلة وتغيير خريطة المنطقة بإنشاء “دويلات شظايا” تحت الوصاية الغربية وفي خدمة الكيان الصهيوني.
التدخلات الأجنبية الحاسمة في سوريا
كان التدخل الروسي هو الحاسم في سوريا حيث أفشل تدخل الحلف الأطلسي لتجزئة سوريا كما أسقط التدخل العربي الغبي لدعم الجماعات المسلحة بالمال والسلاح والرجال.
كان الدعم الإيراني واضحا من زمان للنظام السوري ووقف إلى جانبه عسكريا حيث منع سقوط مدينة “حمص” في يد (الثوار) التي كانت ستفتح أمامه الفرصة لحصار العاصمة السورية ومثّل إسهام حزب الله في معركة “القصير موقفا حاسما في قطع الطريق لإمداد الجماعات المسلحة بالأدوات اللوجستية وتأمين ظهر القوات النظامية السورية والحليف الإيراني، لكن دعم إيران وحزب الله لم يكن كافيا لحسم الأمور لمصلحة النظام السوري وتطلب الأمر تدخلا عسكريا روسيا مباشرا الذي حاول النظام الإيراني تفاديه لرغبته في ترك سوريا كمنطقة نفوذ خاصة به.
أما تركيا-اردوغان فكانت تتابع كيفية سير الحرب في سوريا التي شارك فيها مقاتلون من 83 جنسية -تصريح وزير الخارجية وليد المعلم- وعندما أدركت تركيا أنه تم إنشاء وتدريب 30.000 مقاتلا من حزب العمال الكردستاني تحت اسم (قوات سوريا الديمقراطية 10% فقط سوريون أكراد) إلى جانب (وحدات حماية الشعب الكردي).
تركيا ومصالحها القومية
تدخلت تركيا في الحرب العالمية الدائرة في سوريا لأن الحلف الأطلسي متواجد بقوة على الأراضي السورية ولا يعنيه سوى حقول آبار النفط التي وُضعت تحت الحماية الأمريكية وإمدادات السلاح الى الإرهابيين “الثوار” سلاح تدفع ثمنه دول مجلس التعاون الخليجي وتتكفل به شركات تجارة الأسلحة الأمريكية والفرنسية.
عندما تأكدت تركيا من استهدافها من الحلفاء صممت على ضرب المسلحين المأجورين مما اضطر فرنسا الى سحب قواتها وحتّم على التراجع ميدانيا ثم التخلي النسبي عن الوصاية عن (قوات سوريا الديمقراطية ولجان حماية الشعب الكردي)… كان الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا 15 جويلية 2016 علامة فارقة في رسم السياسة التركية التي تأكدت من التخطيط للانقلاب العسكري تم في قاعدة انجرليك… وتكليف قائد سلاح الجو التركي بتنفيذ الانقلاب.
تحتاج القومية العربية الى المراجعة، لأنها ببساطة فشلت
ان تركيا وايران بلدين كانا تحت أنظمة استبدادية لكن في العقود الأخيرة تغير النظامان واصبحا نابعيْن من الشعبيْن عبر الانتخابات… فعملا على تحقيق “المصالح القومية” للبلدين.
أما الحركة القومية العربية، أفكارا وتطبيقات، فقد كانت تجربة خاسرة، استخدمت وسائل الاستبداد للتحكم في الشعوب وقادت البلدان التي حكمتها الى خسارة الرهانات، هزائم متتالية ضد العدو الصهيوني، ضياع فلسطين، إهدار كرامة المواطن العربي وغياب التنمية والازدهار الحضاري… قياسا ببلدان كانت تعيش نفس الأوضاع في خمسينات القرن كتركيا أساسا فضلا عن الصين وكوريا والهند وماليزيا.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.