محمد الصالح السعدي
ها قد جاء الربيع… يا كورونا
اليوم ضاقت نفسي وسئمت الحجر الصّحي فقرّرت خرقه والخروج لاستقبال الربيع. تسلّلت خارج المدينة الّتي كانت خاوية على عروشها، قاصدا أرياف الدّير المجاورة حيث ولدت وقضيت طفولتي الأولى. كان الطّقس رائقا، سماؤه صافيّة، ورياحه هادئة، وحرارته مستحبّة، يلفّه السّكون ويعمّه السّكوت، وكلّ ما فيه يغري بالتّنزه في الحقول وإطلاق العنان للتّخيل والانفلات من ضاغطات الحياة الدّنيا.
كنت أسير وحيدا لا ألوي على شيء، تتزاحم في ذاكرتي العجوز صور من رّبيع أيام الصّبى، أيام كنت دون الخامسة من العمر أخرج مع الأتراب لاستقبال فصل الجمال والحياة. كنّا نرتدي أفخر ما نملك من لباس الفقراء، وكان منّا من يضع وشاح أمّه أو أخته حول رقبته ليزيد من زينته. كنّا نقصد الحقول المجاورة لأكواخنا فنرتع ونمرح ونغنّي وننشد ونصنع من أزهار الرّبيع تيجانا نضعها على رؤوسنا وأحزمة نتمنطق بها. كما كنّا لا نتوقّف عن الأكل من ثمر الرّبيع، التّالمة والحلحالة والكزّ وقرين الجدي والبوحليبة والتّيفاف وحتّى البكّ والقرفالة. كنّا نملأ بطوننا من هذه الحشائش غير عابئين بما يمكن أن تسبّبه لنا من أضرار، ورغم تحذيرات الكبار لنا وتخويفنا من السّام منها وما فعلته في بعض الأطفال وحتّى بعض الكهول. المهمّ عندنا طراوتها وما في طعمها من حلاوة. كنّا بعد أن نشبع، نجمع الكثير منها لأهالينا، كما نجمع الكثير من الأعشاب والأزهار لنصنع منها باقات نهديها للأمّهات والآباء ولكبار الدّوار خاصّة سيدنا المؤدّب طمعا في رضاه ورحمته بنا. كما كنّا نستعمل الكثير منها لتزيين أكواخنا المبنيّة من القشّ والطّين، دون أن نستثني الكتّاب حيث كان سيدي المدّب يحفّظ أطفال الدّوار وشبّانه القرآن الكريم. كم هو جميل ذلك الرّبيع رغم الجوع والخصاصة ورغم الأمراض المميتة أحيانا.
انتهى بي المطاف إلى حقل معشوشب، تمتدّ خضرته على مدى البصر، تتوسّطه سبّالة كنّا نسقي منها لبيوتنا ودوابنا. هنا احتضنتني أزهار الحقول وأعشاب الجبال بألوانها الزّاهيّة وروائحها الفوّاحة، وغنّت لي العصافير بزقزقاتها العذبة، وأضلّتني أشجار العرعار والصّنوبر والكالتوس بضلالها الوارفة، ومدّت لي فواكه الطبيعة ثمارها الّتي كبرنا على مذاقها اللّذيذ. هممت بالغنى والانشاد على نحو ما كنت أفعل مع الأتراب أيام زمان. ولكنّ كوابح مختلفة غمّت نفسي وأبكمت فمي وأصمّت أذنيّ. وعوض أن أغتنم هذه الفرصة المتاحة للتّمتع بالطّبيعة وأتخلّص للحظات من ضغوطات حضارة الإسمنت والحديد والضّرب تحت الحزام، فأطلق العنان لكلّ مكبوتاتي، فأجري وأركض في الحقول، وأتمرّغ فوق بساطها العشبيّ وأرفع الصّوت بالغناء والإنشاد، عوض كلّ هذا وجدتني واقفا إلى جذع كالتوسة أمنّي النّفس بملاقاة الرّبيع. فأين هو يا ترى؟ فقد وجدت أعرضه لكّني لم أجده هو.
حاولت أن أوهم النّفس بوجوده إلى جواري وأن أرفع الصّوت بالغناء والإنشاد، وأشدو: ربيع العام حيّانا فأنعشنا وأحيانا، أو “إنّ الطّفولة تهتزّ في قلب الرّبيع…ريّانة من ريّق الأنداء في الفجر الوديع” أو “خلقت طليقا كطيف النّسيم… وحرّا كنور الضّحى في سماه” أو “كلّ شيء مزهر.. كلّ شيء أخضر.. الرّبيع الحلو عائد. والعصافير قصائد. مرحبا جاء الرّبيع.. مرحبا عاد الرّبيع” أو “مرحى مرحى يا ربيع العام أشرق، فدتك مشارق الايّام” أو “مرحبا ذبنا اشتياقا، يا ربيع يا خفيف الرّوح أهلا مرحبا”. إلّا أن غصّة في القلب سدّت نفسي، وزفرة حرّى خنقت حنجرتي، ودمعة غزيرة أفسدت رؤيتي، فإذا الأزهار التّي تزخرف الحقول بألوانها الزّاهيّة كأنّها سحابة من فيروسات كورونا اللّعينة تتجه نحوي في حركة لولبيّة سريعة يصحبها عواء كعواء الذّئاب الجائعة، كانت تحثّ الخطى نحوي وكأنّها تبحث عن مستقرّ لها في رئتيّ من أجل القضاء عليّ. يا للمصيبة، لقد هلكت لا محالة.
وفي حركة يائسة منّي، طفقت أصيح وأصرخ وأجرى في كلّ اتّجاه وأضرب بيديّ لأبعد جحافل الفيروسات الّتي كانت تتكدّس على كامل الجسم وتتسابق في الولوج إلى صدري من أنفي ومن فمي، إلى أن سقطت مغمى عليّ في بركة تغمرها أعشاب طويلة ونباتات شوكيّة تعلوها أزهار كبيرة تذكّر ألوانها بفيروس كورونا كما صوّرته المجاهر المكبّرة وعرضته شاشات التّلفيزيون والحواسيب..
هناك، وأنا بين يقظة ومنام، تناهى إلى مسمعي صوت غير مألوف لديّ يحدّثني بلطف قائلا: “أين أنتم يا سكّان المدن ومدّعي الحضارة؟ لماذا لم تأتوا لاستقبالي كما وعدتم في السّنة الفارطة؟ ها أنا قد أوفيت بوعدي، أمّا أنتم فقد أخلفتم وعدكم. ها أنا قد بسطت لكم البسط الخضر وزركشتها بالأزهار الفوّاحة ولطّفت لكم الجوّ وصفيّت لكم السّماء وأرسلت بينها وبين الأرض طيورا لتسمعكم أعذب ألحانها. فلماذا تخلّفتم عن المجيء؟ وأنت، لماذا جئتني وحيدا؟ أين الأطفال؟ أين الشّباب؟ أين العائلات؟ لماذا غابوا هذا العام؟ أين الحفلات والمهرجانات الّتي تعوّدتم إقامتها للتّرحيب بقدومي في مثل هذه الأيّام…؟”. تمالكت نفسي ولملمت ما بقي لديّ من وعي وما بقي عندي من قدرة على الكلام، وخاطبته قائلا: ” الرّبيع يا هذا، ليس حقولا خضراء ولا أزهار فوّاحة ولا طيور غنّاء ولا نسائم تنعش النّفوس. الرّبيع يا صاحبي قلوب صافيّة ونفوس مطمئنّة وأرواح طاهرة وأخبار مبشّرة بزوال الغمّة وانتهاء الحجر الصّحي وعودة الحياة البسيطة بتلقائيّة التّواصل بين النّاس وحرارة العلاقات بعباراتها الحلوة وحركاتها المعبّرة ومصافحاتها وعناقها وحتّى بمشاكساتها وخصوماتها، بلعبها ومرحها، بأعمالها وأنشطتها اليوميّة، لا خوف فيها من كورونا أو غيرها من سيّء الأسقام. الرّبيع يا رفيقي اطمئنان للحياة وإقبال عليها بحلوها ومرّها، ومقاومة لكلّ ما من شأنه أن يعكّر صفوها. فكيف تنتظر منّا أن نأتي لاستقبالك ونحن مجبرون على المكوث في بيوتنا، ليس لنا الحقّ في مغادرتها إلّا لقضاء حاجة متأكّدة. كيف سنخرج لاستقبالك وكورونا اللّعينة قد سلبت منّا كلّ شيء..”. ابتعد عنّى وتداعى فوق الأعشاب وأشاح بوجهه عنّي تعبيرا عن عدم اقتناعه بما قدّمت، ولكنّه مضى يخاطبني بشيء من الاستخفاف، “تقولون إنّ كورونا هيّ الّتي منعتكم من الخروج لاستقبالي. ربّما، ولكن الحقيقة أنّكم لو كنتم تملكون العزيمة القويّة والإرادة الصّادقة لتغلّبتم عليها بسهولة، ولاستطعتم بتضامنكم وحسن تدبيركم تحويلها من نقمة إلى نعمة، ولتوصّلتم إلى تحويل شتائها المتجهّم إلى ربيع دائم البسمة والانشراح. ولكنّكم قوم تجهلون وتكابرون. ثمّ إنّكم من فرط خوفكم وقلّة حكمتكم وضعف إيمانكم وسوء تدبيركم أفسدتم أمزجتكم وأصبحت زهراتي تتراءى لكم كأنّها فيروسات قاتلة. أفيقوا يا ناس، وعودوا إلى رشدكم، فالرّبيع هو أكسيد الحياة وبلسم الجروح ومضادّ الفيروسات وقاهر الظّلام، أفيقوا واغتنموا فرصة وجودي بينكم، فقد لا تكونون معي العام القادم…” ودون أن يمنحني فرصة للتّعقيب على خطابه، صفّق بجانحيه وحلّق في الفضاء الرّحب.
أفقت من غيبوبتي على صوت آذان العصر المنطلق من مئذنة جامع القادريّة. تحاملت على نفسي واعتمدت على الأحجار القريبة منّي لأقف على قدميّ وأنا كلّي رغبة في الاستغراق في ما كنت فيه.
فقد كان عالما لا سلطان لكرونا عليه. وأنا في طريق العودة كنت أجمع الكثير من أزهار النّرجس أو ما نسميه في جهتنا بالبهيرة. فهي الزّهرة الّتي يكثر النّاس من جمعها أو شرائها في فصل الرّبيع ليعبّقوا برائحتها الفوّاحة شذى بيوتهم ويزّينوها بها، ويتبادلونها في بينهم ليعبّروا بها لبعضهم عن الصّفاء والمودّة والتّفاؤل بما هو القادم.
في طريقي مررت بجبّانة الغربة حيث يرقد أبي في قبره منذ ما يزيد عن نصف القرن. وقفت حذو كتفه الأيسر وقرأت الفاتحة كما حفّظني إياها وأنا طفل صغير، ثمّ همست إليه في تودّد واستعطاف:” السّلام عليك أيّها العزيز، السّلام عليك أيها الغريب، لماذا هجرتني مبكّرا وتركتني أصارع الغربة وحدي إلى اليوم؟ أرجو أن تكون غربتنا ابتلاء لنا من الله، وليس عقابا لنا منه. أرجو أن تكون راض على أدائي في هذه الغربة الّتي لا أحد يعرف مدى قسوتها عليّ أكثر منك. صحيح أنّي مقصّر في زيارتك، ولكنّ طيفك لا يفارقني أينما حللت وكيف ما كنت. وإن كان لكورونا فضل عليّ في هذه الظّروف المؤلمة فهو أنّها ضاعفت من فرص الاختلاء بك والبوح إليك بما فعلته بي الغربة. أعلم أنّك كنت قليل الكلام وكثير التّأمل ولا تحبّ كثرة الحديث، لذلك أستودعك الله وكلّي أمل في رضاه ورضاك، تصبح على خير”.
وضعت نرجستين على قبره، وانسحبت في هدوء قاصدا المدينة.
واصلت قبيل الغروب، وقد احمرّ الشّفق فوجدت المدينة هامدة لا حياة فيها. فاغتنمتها فرصة لأهدي أهاليها ما جمعته من أزهار النّرجس. فرحت أقفز من باب إلى باب وأضع أمام كلّ باب نرجستين وأنا أصرخ لهم داخليّا: ” جاء الرّبيع، جاء الرّبيع، جاء الرّبيع…”.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.