أبو يعرب المرزوقي
ختمت الفصل السابق بالقول إن الإنسانية ذاهبة إلى استكمال شروط الوصول إلى دلالة فصلت 53 فترى أن القرآن حق عندما ترى آيات الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كيان الإنسان العضوي والروحي وهما فيه مناظران للطبيعة والتاريخ خارجه).
واستنتجت أنها ستكتشف أن العولمة هي نصف الطريق نحو فهم معنى النساء 1
(البشر اخوة لأنهم من نفس واحدة ولهم رب واحد) ومعنى الحجرات 13 (البشر متساوون بصرف النظر عن الفروق العرقية والطبقية والجنسية) وأنهم مدعوون للتعارف معرفة ومعروفا.
فبدوت شديد التفاؤل بمستقبل الإنسانية التي تكون قد أضافت إلى العولمة الحاصلة ويغلب عليها المادي من شروط قيام الإنسان العولمة المنشودة ويغلب عليها الروحي من شروط قيام الإنسان. وهو ما يعني أني قد اعتبرت الإنسانية كلها ستصبح مسلمة.
ولعل ذلك يجعل الكثير يعتقد أني أعني أن المسلمين الحاليين يمثلون هذا المثال الأعلى الذي أتصور الإنسانية ستصل إليه بعد تدبر ما تعيشه الآن وتفهم علله التي حاولت الكلام على بعضها في الفصلين الأولين.
لو كنت أعتقد ذلك لكنت حقا مجانبا للصواب: فالمسلمون لا يختلفون عن غيرهم حاليا إلا بالأقوال. لكنهم بالأفعال لعلهم أفسد من أفسد ما يوجد على الكرة الأرضية. وكل الشرور التي لم يفعلوها العلة فيها ليس عدم الإرادة بل عدم القدرة. يصح عليهم حل جحا: ترك الحمار المسيب وعاقب المربوط لأنه لو كان يستطيع لفعل أكثر.
كلامي على الإنسانية كلها ومنها المسلمون. وقد يكون الخلط بين الاسم والمسمى مما يجعل بعض المسلمين يتوهم -وهذا هو تخريف من يزعمون الكلام باسم الإسلام من علماء المدرسة التقليدية- يتصورون الغرب سيسلم بمعنى أنه سيجد فيهم مثاله الأعلى: كل من يفكر كذلك يكذب على نفسه لما بينت في الفقرة السابقة.
الإسلام الذي أتكلم عليه لم يتحقق أبدا حتى في عهد الراشدين وحتى في عهد الرسول. هو مدلول النساء 1 والحجرات 13. وكلاهما مثال أعلى تسعى إليه الإنسانية. وهما معنيان من جنس المقدرات الذهنية النظرية (المنطق والرياضيات): إنهما من المقدرات الذهنية العملية التي تشمل القيم الخمس التي يعرف بها الإنسان المستعمر في الأرض والمستخلف فيها:
- الإرادة الحرة.
- والعلم الصادق.
- والقدرة الخيرة.
- والحياة الجميلة.
- والوجود الجليل.
وهذه القيم هي التي تمثل في كيان الإنسان مفهوم العبودية لله بمعنى أن الإنسان الذي يعيها يكون ذا إرادة حرة وذا علم صادق وذا قدرة خيرة وذا حياة جميلة وذا وجود جليل أي إنه لا يعبد غير الانشداد إلى هذه القيم من حيث هي مثل عليا الوعي بها هو جوهر العبادة والعمل بها هو تحققها الفعلي.
وهي منشود وجوده وأصل قيامه الروحي بوصفه انشدادا إلى إرادة الله الحرة وعلمه الصادق وقدرته الخيرة وحياته الجميلة ووجوده الجليل مثلا عليا في التمام والكمال ينشد حظه منها: وذلك هو الإسلام وشرط السلام بين البشر وهو حقيقة الاستخلاف.
وما أريد الكلام فيه اليوم هو علاقة قيمتي قيام الإنسان العضوي الاقتصاد -الاستعمال والتبادل- وقيمتي قيامه الروحي -الحرية الكرامة-. وما يوحد بين القيم الأربع بوصفه أصلها وغايتها وشرط تحقق الممكن منها في التاريخ الفعلي هو كيان الدولة المجرد الذي يتعين عندما يصبح نظاما واعيا في الجماعات البشرية.
فالدولة من حيث هي بنية مجردة ملازمة لوجود الجماعات شرطا وغاية في آن هي عين هذه القيم في مراحل تحولها إلى مؤسسات ينتظم بها الوجود الإنساني بوعي أو بغير وعي منذ نشأة البشرية. لكنها تصبح عينية بمن يملأ خاناتها المؤسسية فيكون قيما عليها ومن هؤلاء يصيبها الفساد.
وهي من ثوابت كيان الإنسان العضوي حتى وإن تأثرت بتطوره الحضاري المتمثل في تربيته وحكمه من قبل القيمين على البنية المجردة للدولة. وهي بهذا المعنى المشترك بين الديني والفلسفي بمعنى فاعلية الخلقي غاية والسياسي أداة.
فحياة الجماعات البشرية ممتنعة بدونها وكل من يتكلم على نشأة الدولة في العصر الكلاسيكي أحمق لأنه يخلط بين الدولة وأنظمة القوامة فيها. لذلك فالدين والفلسفة هما السياسة بالجوهر من حيث هي “تربية الإنسان أصلا للشرعية وحكمه أداة للشوكة مقومي النظام في الجماعات”.
وهما ينتجان الإنسان وينتجان عنه من حيث هو منتقل من موجوده إلى منشوده. ويمكن القول إن موجوده هو:
- القيمتان الاقتصاديتان (الاستعمالية والتبادلية)
- ومنشوده هو القيمتان الروحانيتان (الحرية والكرامة).
والأصل هو السياسة المتعينة في الدولة من حيث هي جهاز التربية وجهاز الحكم في أي جماعة من حيث هي جماعة كائنات حية متطورة حضاريا بتطور هذا الوعي بكونها ذاتية النظام والتنظيم. وقد حدد ابن خلدون حديها الأقصيين:
- البداوة القصوى أو الخضوع شبه المطلقة للشروط الطبيعية للحياة.
- والحضارة القصوى أو الترف والقطيعة مع الشروط الطبيعية للحياة.
- واعتبر التطور الإنسان محصورا بين هذين الحدين الأقصيين.
- ومحكوما بما سماه “نحلة العيش” أي هذه القيم الأربع.
- وختم بضرورة المحافظة على معاني الإنسانية بالتربية والحكم المتحررين من العنف.
ويمكن اعتبار هذا الفصل -الثالث من المحاولة- الفصل الأوسط بين الفصلين السابقين والفصلين المواليين ووظيفته استقاق خطة العلاج الذي يثبت أن مآل الإنسانية بعد هذه الأزمة هو إثبات ما تقوله فصلت 53 وما بسبب جهله أو تجاهله لم تنجح الأمة في تبين حقيقة القرآن وانجاز المهمة بالدولة الكونية التي بشر بها الإسلام.
فلو فعلت لكان الإسلام “استراتيجية التوحيد القرآنية بمنطق السياسة المحمدية” (تعليل عنوان تفسيري الفلسفي للقرآن الكريم) عولمة جامعة بين شروط الاستعمار في الأرض اقتصاديا بالتحرر من ربا الأموال والاستخلاف فيها روحيا بالتحرر من ربا الأقوال.
والتحرر منهما يعني فهم أن الإنسانية لن تصبح إنسانية إلا بالتحرر من دين العجل ودولته التي يحكمها ربا الأموال (معدن العجل) وربا الأقوال (خوار العجل). وهما عين الأبيسيوقراطيا أو البنية العميقة للثيوقراطيا والانثروقراطيا حيث تكون التربية والحكم باسم الله المتأنس ثم باسم تكون التربية والحكم باسم الإنسان المتأله: كلاهما تربية وحكم باسم العجل.
فالانثروبوقراطيا ليست إلا علمنة للثيوقراطيا: سواء كانت ليبرالية أو ماركسية. فلا فرق بين تربية الكنيسة وتربية الحزب الشيوعي مثلا ولا فرق بين الحكم باسم الواجبات المزعومة إزاء الله والحكم باسم الحقوق المزعومة إزاء الإنسان.
كل ذلك هدفه تحقيق ربا الأموال وربا الأقوال أي بعدي العجل اللذين تغطي عليهما هذه المعادلة الكاذبة. ويمكن أن يزعم البعض أن الليبرالية تختلف عن الماركسية. وفي الحقيقة الفرق في الأسلوب وليس في الجوهر: لأن ما يحققه الماركسي بأسلوب العنيف يحققه الليبرالي بالعنف اللطيف: كلاهما يستعبد الإنسان بوهم السعادة الكاذبة أو بوهم الوعد الكاذب.
وهي ليست كاذبة فحسب بل هي خداع لتمرير المعادلة الظالمة بسبب المقابلة بين قيم الاستعمال (تحط من الضروري) وقيم التبادل (ترفع من الكمالي) في شرط القيام العضوي أو التعاون بين البشر (مثل سلم الأجور) وبين قيم الكرامة (تحط من الضروري) وقيم الحرية (ترفع من الكمالي) في شرط القيام الروحي أو التواصل بين البشر (مثل سلم المنازل).
ولعل سلم الأجور وسلم المنازل كلاهما دليل قاطع على هذا الخلل الأساسي في المعادلة وعلة ما تنبني عليه من ظلم مطلق. فلو قارنت أسمى رتب المعرفة (البحث العلمي) بأدنى رتب الفنون (لاعب كرة) ولوجدت أن أجر المبدع فيه هذه يمكن أن يساوي ميزانية البحث العلمي في دولة متوسطة مثل تونس. ولو قارنت منزلة أسمى مبدع في فلسفة السياسة مثلا بأدنى رتب “صبابة” السياسة ستجد الأول شبه متسول لديه.
فتفقد الدولة شرط المعادلة العادلة وتتحول إلى أداة المعادلة الظالمة بلطف القانون وعنف الأجهزة: وعندئذ تصبح في حل من المشترك بين الديني والفلسفي اللذين يصبحان خطابا لا يتجاوز الأقوال بل ويناقض الأفعال حتى لما تأتي كورونا لتذكر بتقديم الاستعمال على التبادل والكرامة على الحرية. ومن ثم فلا بد من البحث في مسألتين:
- أصناف الانتخاب في تربية الإنسان وهو موضوع الفصل الرابع.
- أصناف الانتخاب في حكم الإنسان وهو موضوع الفصل الخامس والأخير.
كيف أقدم الكرامة على الحرية؟ أليست الحرية أسمى منها؟ أبدا: فعندما يتنازل الإنسان عن كرامته بسبب فقدان شروط بقائه يصبح عبدا. فتكون العبودية تنازلا عن الحرية بسبب فقدان الكرامة. ولهذه العلة لا يكون الإنسان الذي يقبل التنازل عن كرامته حرا بحق.
ومن ثم فالكرامة شرط الحرية أو على الأقل شرط عدم التنازل عنها وتفضيل الموت على العيش دون كرامة. وتلك هي العلة التي جعلت ابن خلدون يعتبر فساد معاني الإنسان علته العنف في التربية ومنه يترتب القبول بالعنف في الحكم.
فالأول تربية بنفي كرامة المتعلم والثاني حكم لمن ربي على فقدان الكرامة. ولهذه العلة فالجامعات العربية أكثر استبدادا وفسادا من الحكومات العربية لأنها محكومة بمحاربي الكرامة التوابع لمحاربي الحرية: والحرب على الحرية مادية وأداة أصحابها الخوف والطمع والحرب على الكرامة معنوية وأداة أصحابها النذالة والسفالة.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.