تدوينات تونسية

ما هو 17 ديسمبر ؟

أحمد الغيلوفي

هو حدث. لقد كان حدثا بالمعنى الفلسفي للحدث. لنلاحظ ان “حدث” كيفما صرّفتها في اللغة العربيه فانها تعني الخلق الجديد والجِدّةُ والصِّغر مقابل الهرم والعجز: حدُث الشيء أي كان جديدا؛ وحدّثَ الشيئَ جعله جديدا مُتطورا. وهناك ايضا معنى يدور حول ما يحِفُّ بالخلق الجديد والولادة: فالحدث الأكبر هو الحيض والنفاس والجماع. اما حدّث اي تكلم وجاء بالجديد عن الأحداث القريبة.

17 ديسمبر كان حدثا في معنى أنه كان جديدا في التاريخ العربي. وجه الجدة انه شكّل كتلة تاريخية تلقائية وغير واعية بذاتها تخلت عن الايديولوجيا من أجل هدف استراتيجي هو “إسقاط النظام”.

وجه الجدّة ايضا هو انه لم يكن متوقعا من طرف النخب او الأنظمة وأجهزة الرصد العالمية، وقد عبرت نيويورك تايمز عن ذلك في مقال شهير بعنوان “لماذا لم تتمكن الولايات المتحدة من توقع الانتفاضات العربية”. لقد سيطر على الأذهان ما نشره الاستشراق عن المنطقة العربية بوصفها استثناء راكدا وعصيا عن التغيير. لقد صاغ برنار لويس القاعدة منذ منتصف القرن العشرين “إنهم لا يصلحون للديمقراطية” علينا حكمهم بطريقة شرقية. وجه الجدة إذا أنه رمى بمسلمات العقل الغربي، لذلك قال الان باديو “تونس ومصر برهنتا أن ريح الشرق أزاحت كبرياء الغرب. فلنكن تلاميذ هذه الحركات لا أساتذتها الاغبياء”.

هناك معنى آخر للحدث نجده عند هايدغر: انه ما يصيبنا بالتوتر، تماما كتوترنا عندما لا يفتح المفتاح الباب، فنشك في المفتاح وفي القفل وفي حالتنا الذهنية. إننا إزاء حدث جديد لا نملك مفاتيح فهمه. المفاتيح التي لدينا قديمة تخص أحداثا قديما. يقول ديلوز “الحدث أصل في ذاته. لا يجب أن نحاكمه بالنظرية التي في رؤوسنا”.

أخيرا هناك معنى آخر للحدث: “انه ما يؤول اليه” اي انه في صيرورة لا نستطيع ابدا تحديدها او توقعها. وهذا يعني أمرين: يستطيع أن يؤول إلى ثورة إذا وجد ثوارا كما يستطيع ان يقع تحويله عن اهدافه إذا كانت القوى الارتكاسية أقوى من قوى الدفع الى الامام. في كلا الحالين 17 ديسمبر بريء مما يفعلون: لقد أعطانا “دفعة ارخيميدس الأولى” وهي نزع الخوف من قلوبنا (وهذا وجه آخر لمعنى الحدث) أما مآلات 17 ديسمبر فتتحملها القوى الموجودة على الأرض. لقد كان 17 ديسمبر بارودا بريئا: تستطيع أن تقصف به عدوك فتتقدم، اما اذا كنت غبيا ارعنا فإنك تضعه تحت رجليك وتُشعل الفتيل. 17 ديسمبر كان حدثا بريئا وهذا معنى آخر للجدة فيه.

اخر كلمة: 17 ديسمبر هو افق: ما فسُد طيلة قرون من الصبيانية والخِفّة أن ننتظر إصلاحه في بضع سنين. هكذا يلتقي المتشائمون العجائز مع المتفائلين الاطفال. مثلما كان الانحطاط مسارا وتراكما تاريخيا طويلا يكون النهوض مسارا طويلا. بغداد لم تبن في يوم واحد.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock