مقالات

المُنصف الّذي لم ينصَف

فتحي الشوك

في الخامس من سبتمبر سنة 1948 اجتمعت جموع غفيرة في مقبرة الجلّاز بالحاضرة تونس، توافدت من كلّ أنحاء البلاد التّونسية في حشد لم تعرفه من قبل لتوديع محمّد المنصف باي الّذي توفّي في الفاتح من نفس الشهر وهو في منفاه بمدينة بو الفرنسية، بكته الجماهير بكلّ حرقة وهي الّتي أحبّته بصدق، كان اسما على مسمّى حمل همّ شعبه فمكّنه الأخير من مفاتيح قلبه ليصبح حبيب الشّعب باستحقاق وبلا تكلّف.

كانت مسيرته قصيرة عطرة فاحت رائحتها الطيّبة ليستمرّ عبقها بالرّغم من محاولات البعض تلويثها وكانت إطلالته مضيئة مشرقة كنجم لاح في ليلة دهماء لتبقى مشعّة برغم جهود كلّ من حاول إطفاءها.
فكيف كان هذا الباي استثناء في حكم الدّولة الحسينية ؟ وكيف استحوذ على قلوب معظم التّونسيين وحظي بتقديرهم؟ ثمّ من وراء محاولات تهميش دوره وتغييبه؟

مسيرة قصيرة متميّزة:
ولد محمّد المنصف باي يوم 4 مارس 1881 وتتلمذ في الصّادقية ليتدرّب على شؤون الحكم حيث برز له موقف مشجّع لوالده محمّد النّاصر باي للتّواصل مع رموز الحزب الدّستوري الحرّ بعد أحداث 1922 ممّا أغضب سلطات الحماية وسعت لأجل إبعاده، ليغيب عن الأنظار ويبتعد عمليّا عن السّياسة منذ وفاة والده خلال نفس السّنة حتّى سنة 1939 ليجد نفسه مجدّدا يتصدّر المشهد بعد وفاة ثلاثة من ولّاة العهد بين سنتي 1939 و1942 ليعيّن وليّا للعهد في 30 أفريل 1942 قبل أن ينصّب على العرش الحسيني في 19 جوان 1942 بعد وفاة أحمد باي.

كانت المنطقة والعالم يعيشان على إيقاع الحرب العالمية الثانية الّتي اندلعت في 01 سبتمبر 1939 وكان لسقوط باريس السّريع في 14 جوان 1940 في أيدي قوّات المحور أثره المباشر على المشهد التّونسي، إذ اعتبره غالبيّة التّونسيين حينها خبرا سارّا أثلج قلوبهم نكاية في المستعمر المباشر الغاشم.
إحدى عشر شهرا قضّاها محمّد المنصف باي في الحكم كانت حافلة بالأحداث والمتغيّرات وكانت استثنائيّة ومختلفة عمّن سبقه من البايات بل وكافية ليخطّ أسطرا من ذهب في تاريخ تونس لتذكره الألسن طوعا مسبقا بـ “سيدي” وتعشقه القلوب بصدق وتبكيه العيون بعد فراقه بكلّ حرقة.
نزل الباي على غير عادة سابقيه من برجه العاجي ليلتحم بشعبه، ألغى عادة تقبيل الأيدي وكثّف زياراته للمدارس والأسواق والجوامع والمقامات وساعد بقدر المستطاع المحتاجين والفقراء وكان مع عامّة شعبه لم يتوار في مخبئه حينما كانت القنابل تنزل من السّماء.
أنعش الحركة الوطنيّة الّتي كانت منهكة حينها ومنقسمة حول نفسها بين حزب حرّ قديم وآخر جديد اشتدّ بهما الخلاف إلى حدّ إراقة الدّماء (أحداث ماطر وباجة سنة 1937) ليقرّب من وجهات نظر المختلفين والفرقاء، فهو من استدعى الطّرفين في أوت 1942 مطالبا إيّاهم بتوحيد الصّفوف وتغليب المصلحة الوطنيّة.
كما يحسب له أنّه قدّم مذكّرة للمقيم العام استيفا بغرض رفعها إلى حكومة فيشي الفرنسية تضمّنت 16 نقطة لمراجعة بنود الحماية والمطالبة بإنشاء مجلس تشريعي بتمثيلية حقيقيّة للتّونسيين والمساواة بين التّونسيين والفرنسيين في المرتّبات والمعاملة وسلّم ارتقاء الوظائف العامّة إلى جانب مطلب إجبارية التّعليم مع تدريس اللّغة العربيّة في كلّ المدارس، كما دعا إلى إلغاء مرسوم سنة 1898 المتعلّق بأراضي الأوقاف والّذي يمنع التّونسيين من امتلاك الأراضي الرّيفيّة. ولم ينس في النّهاية المساجين السّياسيين الّذين اعتقلتهم فرنسا ورحّلتهم إلى مرسيليا في مارس 1940 لمحاكمتهم عسكريّا وكان من بينهم الزّعيمان الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وقد كللّت جهوده لإطلاق سراحهم بالنّجاح بعد دخول الألمان إلى تونس في نوفمبر 1942 ليكون بورقيبة آخر من يعود منهم إلى تونس في 8 أفريل 1943.

وممّا يذكر لمحمّد المنصف باي أيضا جرأته في تشكيل حكومة جديدة دون إعلام المقيم العام، إختار أعضاءها من خارج الوسط المخزني التقليدي ومن رحم الحركة الوطنّية ليجمع الدستوري القديم (الأستاذ صالح فرحات كوزير للعدل) والدّستوري الجديد (الدكتور محمود الماطري كوزير للدّاخلية) وليترأّسها مستقلّ ممثّل في محمّد شنيق.
حكومة لم تحض بدعم الجميع بما أنّ شقّ من الحزب الحرّ الدّستوري الجديد عمل على إسقاطها لأجل أن يكون بورقيبة هو الوزير الأكبر.

كانت لمواقف الباي المحايدة في النّزاع العالمي الّتي عبّر عنها في رسالته والّتي أجاب بها الرّئيس الأمريكي روزفلت مطالبا بتحييد البلاد التونسية وجعلها خارج دائرة الصّراع إلى جانب نهجه الإصلاحي وتوجّهه الوطني من الأسباب الّتي دفعت فرنسا لعزله بعد انتصار الحلفاء ونفيه إلى مدينة الأغواط بالصّحراء الجزائرية في 14 ماي 1943 قبل نقله بعد تنازله عن العرش إلى مدينة تبس (ولاية الشّلف الجزائرية) حيث قضى سنتين قبل أن ينقل يوم 17 أكتوبر 1945 إلى مدينة بو بالجنوب الفرنسي حيث فاجأته المنيّة في غرّة سبتمبر 1948، وفاة مسترابة حسب المقرّبين منه تحوم حولها شبهة التسميم والّتي لا يمكن نفيها أو إثباتها حسب طبيبه سعيد المستيري.

الحركة المنصفيّة:
فترة نفي وتغييب محمّد المنصف باي كانت بنفس درجة تأثير حضوره، فبقدر ما كان عاملا موحّدا جامعا خلال شهور حكمه، تحوّل إلى رمز وطنيّ التفّ حوله التّونسيون ليتّحدوا على المطالبة بإعادته لتتبلور الحركة المنصفيّة الّتي وحّدت الحزبين الدستوريين القديم والجديد والزّيتونيين وغيرهم باستثناء الشّيوعيين.
مع العلم بأنّ بورقيبة أراد أن يستثمر موقفه السّابق المتحيّز للحلفاء ليدعو إلى كتلة فرنسية تونسية زاعما بأن لا نجاح لتونس دون فرنسا بل أنّه قام بجولات عدّة داخل البلاد لتمرير وجهة نظره ولاستئصال الفيروس النّازي من رؤوس التّونسيين كما يدّعي، ليغادر إلى الشرق في 01 أفريل 1945 متوجّها إلى القاهرة الّتي لم تفتح له الأبواب إلاّ بعد رسالة وجّهها محمد المنصف باي من منفاه إلى الملك فاروق عرّفه ببورقيبة وأضفى عليه الشّرعية.
و في خضمّ ذلك استمرّت الحركة المنصفيّة لتثمر مؤتمر ليلة القدر المنعقد في 23 أوت 1946 و الّذي رفع سقف المطالب إلى المطالبة باستقلال البلاد.
كان مقرّ إقامة الباي المعزول بمنفاه قبلة للقادة الوطنيين وعنوانا لرسائلهم الّتي كانت من بينها تلك الّتي ترد من بورقيبة.
وفي قمّة انتعاش الحركة يتوفّى الباي فجأة في الفاتح من سبتمبر سنة 1948 لينقل جثمانه ويدفن في الخامس من نفس الشّهر في مقبرة الجلّاز، بوصيّة منه على خلاف من سبقه من البايات ليكون ميّتا بين شعبا كما كان حيّا وليستحقّ عن جدارة لقب حبيب الشّعب.
استمرّ إشعاع محمّد المنصف باي حتّى بعد مماته كما استمرّ استغلال بورقيبة له كما في حياته، ففور عودته من الشرق زار ضريحه ثمّ ركب موجة الحركة المنصفية ليوجّهها ويرثها قسرا بعد أن تنكّر لصاحبها.
فبعد الاستقلال ثمّ إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 الّتي كانت من بين أهداف محمّد المنصف باي حسب شهادة أحمد المستيري، تمّت كتابة التاّريخ على مقاس الزّعيم الأوحد الملهم المنقذ والمجاهد الأكبر لتشكّل بذلك الذّاكرة الوطنية عبر شوارع ومؤسّسات تحمل حصريّا اسمه ونصب تذكارية تخلّد شخصه ومناهج تعليمية لا تترك إلاّ هامشا ضيّقا لغيره ووسائل إعلام تسبّح بحمده، ومن العار أن لا نجد في تونس سوى سوق للتّجارة الموازية يحمل اسم المنصف باي كما لا نعثر على أيّة مؤسّسة تعليمية تخلّد اسمه وهو أوّل من دعا إلى إجبارية التعليم.
ولعلّ محمّد المنصف بأيّ لم يكن المنصف الوحيد الّذي لن ينصفه التّاريخ، فمحمّد المنصف المرزوقي عاش قصّة مشابهة بتفاصيل مغايرة لتستمرّ الجوقة المزيّفة للوعي والمشوّهة للتّاريخ في فعلها الشّنيع في فسخها لكلّ من لا يروق لهم حتّى من ديباجته أو هامشه.
رحم الله حبيب الشّعب محمّد المنصف باي و أسكنه فراديس جنانه.

د.فتحي الشوك

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock