مقالات

ليبيا: “الأرض اليباب” في تاريخ العرب وفي ضمير العالم

عبد الرزاق الحاج مسعود

ملخّص:

تجري في ليبيا حرب استعمارية دولية كبرى رهانها الأساسي ثروات البلاد الطاقية الضخمة. حرب تبدو في ظاهرها فوضوية ولكنّها في الحقيقة متحكّم بأدواتها وحدودها بما يضمن نوعا من التوزيع الاستعماري لخريطة الثروة الليبية بما يُرضي كلّ القوى الاستعمارية الفاعلة في ليبيا المستباحة، وبما يمنع عودة ليبيا إلى التاريخ العربي بعد أن أخرجها منه الاستبداد القذافيّ الذي اجتث بذور فكرة السياسة ودولة القانون من عقل أجيال من الليبيين الذين اضطرّوا بعد زوال قبضة أجهزة المخابرات الليبية إلى الاعتصام بانتماءاتهم القبلية القديمة، أو إلى تكوين ميليشيات جريمة يجمعها السلاح والمال وترعاها القوى الاستعمارية المتعدّدة، بما يجعل من “الدولة” أبعد من أي وقت مضى عن وعي الليبيين وعن واقعهم.

مقدّمة:

كلّ أجزاء الرقعة العربية تحتاج اليوم سؤالا على مقاس مأساتها المحتدمة. لا رقعة من الخارطة العربية تعيش الآن بمنأى عن الزلزال التاريخي الذي يضرب جذور الوجود العربي ويدفعه نحو مآلات غامضة.

ليبيا تحديدا رقعة عربية ذات خصوصية تاريخية وغموض مضاعف ضمن هذا الحريق العربي العامّ. بيد أنّ غموضها لا يمنع من المسك بمفردات “فوضاها” المتفاعلة أمامنا فيما يشبه اللغز. فالأكيد أنها “فوضى” تعمل حسبب منطق تاريخي واقعي يتداخل فيه الذاتي المحلّي اللّيبي المرتبط بما خلّفه “اللاعقل القذافي المَرَضي” من دمار سياسي ومجتمعي شامل، والإقليمي العربي (المصري والإماراتي والسعودي والقطري) الأداتي والمرتزق والموظّف استعماريا، والدولي الاستعماري (الفرنسي والإيطلي والتركي والأمريكي والروسي.. ثمّ الألماني الملتحق أخيرا والمختلف جوهريا عن سابقيه) المتحرّك حسب مصالح امبريالية عارية متنافسة ومتواطئة ومتغيّرة.

نستطيع اختزال كلّ الأسئلة حول طبيعة ما يجري في ليبيا في سؤال وحيد: ما هي ليبيا.. الآن؟

1. ليبيا جغرافيا حرّة للجريمة السياسية الدولية:

أرض ليبيا اليوم مستباحة من جهات استعمارية دولية معلومة: شركات النهب الطاقي الدولية التي تعمل تحت حماية دول استعمارية تقليدية لها وجود قديم في ليبيا مثل إيطاليا وبريطانيا وأمريكا وفرنسا، أو جديدة صاعدة مثل روسيا وتركيا والصين.. وألمانيا إلى حدّ ما. لذلك ليس من شكّ في أنّ حالة الحرب المفتوحة والفوضى المدمّرة التي ترزح تحتها ليبيا هي حالة مبرمجة ومخطّط لها من مراكز القرار الدولي رغم مناورات الميدان والاحتكاكات “التكتيكية” العابرة بين هذه القوى نفسها المتنافسة على ثروة ليبيا الخيالية. مناورات لا تمنع إنتاج وتصدير النفط والغاز في عموم أرض ليبيا و”تحييد” حقول الإنتاج ومعابر التصدير وموانئه عموما عن الحرب “المؤطّرة” التي لم يعد أحد يشكّ أنها (الحرب) سوق عالمية كبرى تستثمر فيها المراكز الرأسمالية العالمية بل لعلّها صارت عصب الاقتصاد العالمي ومحرّك دورته المالية الضخمة (يكفي أن ننظر إلى حجم الإنفاق العسكري الخيالي لدول الخليج، والسعودية أساسا، باعتبارها المستهلك العالمي الأوّل للسلاح الغربي، وتقدير حجم تجارة الأسلحة المهربة التي تغذّي المحرقة المفتوحة في عموم الرقعة العربية، لنفهم طبيعة حروب التحريك الموضعي الموجّهة استعماريا).

2. حكم القذافي: الاستبداد جريمة مدمّرة لجينات السياسة:

على امتداد 42 عاما من حكم القذافي (1969- 2011)، صارت ليبيا “كنزا” استراتيجيا طاقيّا لأمريكا وبريطانيا وإيطاليا والإتحاد السوفياتي السابق. وساهموا كلّهم في تكريس حكم العقيد “المخبول” بما جعل من ليبيا خزّانا نفطيّا غربيا آمنا وسوقا استهلاكية تستورد كلّ شيء (من السيارة اليابانية/ الأمريكية الفخمة حتى مصّاصات الحلوى التركية) يحكمه مجنون يمثّل “حالة” سياسية عربية (استشراقية) مثالية في سفه الإنفاق الأحمق و”جنون عظمة” زيّن له وهم العمل على قيادة العرب وافريقيا والعالم ب”نظريته العالمية” المزرية. كان لا بدّ لذلك الجنون أن يفيض على حدود الضبط السياسي الغربي من حين لآخر، حيث اضطرّت مغامرات القذافي السياسية المجنونة: في التشاد منذ 1973 واختراقه للفصائل الفلسطينية ولجواره العربي ثمّ الإفريقي، واستعمال سلطته المالية الخرافية في عمليات استخباراتية انتهت بتوريطه في تفجيرات داخل أوروبا ومن ثمّ اضطراب علاقته بأمريكا التي قامت بقصف مقرّ إقامته سنة 1986 وفرضت عليه حصارا.. انتهى سنة 2004 بمصالحة ورفع حصار مع بوش الابن وتوني بلير، مصالحة تزامنت مع تدمير العراق واحتلاله (2003)، والأهمّ أنها ضاعفت لدى القذافي جنونه القديم لينخرط بعدها في زيارات استعراضية فاحشة للعواصم الأوروبية حيث نصب خيمة بداوته (البداوة التي ثبّت فيها ليبيا فعلا مانعا بلدا عربيا شاسعا من ملامسة الحداثة إلا كسلعة استهلاكية لا كفكرة وعقل وبنية انتظام سياسي مدني ديمقراطي) في روما وباريس عاصمة الأنوار في فضيحة تكشف حضيض العقلية الرأسمالية الغربية مع حضيض السفه السلطوي الامبراطوري الذي بلغه القذافي (وأوشك ان ينصب خيمته في نيويورك لولا أن منعته السلطات هناك في آخر لحظة بعد أن أمضى على صفقة خرافية لاستئجار أرض الخيمة من ترامب شبيهه في الخبل والحمق).

ثمّ سقط القذافي على يد ساركوزي في اختلال طارئ لتوازنات الحكم في فرنسا أساسا. ولم تكن أمريكا حتى آخر لحظة متحمّسة لإسقاطه لولا اندفاعة فرنسية حاسمة أراد بها ساركوزي التغطية على فضيحة ارتباطاته المالية بالقذافي. المهمّ أن التقاطع بين الاستبداد القذافي الفاحش والاجرام الاستعماري الفرنسي والأمريكي ما زال يتفاعل على أرض ليبيا ويعطّل تاريخ العرب هناك.

ما زالت فرنسا ترعى الفوضى القاتلة في ليبيا وتموّل الحرب وتسلّح حفتر وتنوب عنه في قصف جوّي “موضعي” كلّما اقتضت توازنات الميدان ذلك، بل وتجعل من ليبيا معبرا لتجارة الهجرة من إفريقيا التي تواصل احتلالها المباشر لكثير من دولها، وتمنع قيام مصالحة وطنية ليبية في الحدّ الأدنى الذي يعيد لليبيا أمنها ووحدتها في انتظار توافق الليبيين على مشروع سياسي يعيد لهم الأمل في بناء “دولة” حديثة.

3. طفرة استعمارية عسكرية عالمية جديدة على أرض العرب فقط:

السلوك الفرنسي الاستعماري في ليبيا فجّ ومعلن ويؤشّر على مرحلة انفلات استعماري عالمي هو بصدد التواطؤ على مقدّرات العرب ومصير كياناتهم السياسية المفتقدة من أصلها لمقوّمات الحياة بسبب الاستبداد أساسا (الذي صار خاصية عربية ثابتة) وبسبب عاهات تاريخية ثقافية متراكمة عبر تاريخ تخلّف عربيّ طويل.

الانفلات الاستعماري الذي كان “يديره” القذافي بعدل، ولو كان عدلا مزاجيّا متقلّبا، بين مراكز النهب الطاقي، ويغنم منه هو وعائلته أرصدة مالية خرافية (نقول خرافية ونعرف أن تقديرها يتجاوز خيالنا الفقير) يودعها في بنوك الغرب، صار يفتقد منذ 2011 لإدارة موحّدة. لذلك تتنافس إيطاليا وفرنسا أساسا على إدارة التسوية السياسية “الممنوعة” لا المتعثّرة كما يشاع، قبل أن تلتحق بهما دول كثيرة تسعها كلها أرض/ وثروات ليبيا الواسعة. التحقت تركيا كقوة اقتصادية صاعدة عبر/ ومع الحليف القطري الذي يطمع هو بدوره في دور سياسي اقليمي يصبّ في الأخير في حساب السيّد الأمريكي الذي يشكّل حضوره العسكري في البحر المتوسط وفي الخليج مصدر كلّ جوازات العبور إلى المنطقة، ومن ذلك عبور الإمارات العربية عبر مصر التي يبدو أنها أسلمت قرارها السياسي لهذه الدويلة الغامضة، والتي (الإمارات) تشبه غرفة عمليات سياسية مالية استخباراتية دولية لا دولة بالمعنى المعروف.

وهاهي ألمانيا التي تتسلّل إلى المشهد الدولي بدفع من اقتصادها الصاعد و”الذكيّ” (استثماراتها في مجال تكنولوجيا الطاقة تسجّل تقدّما يفسّر سلوكها السياسي الجديد) تلتحق بالجميع وتعمل على تجميعهم في مؤتمر دولي حول ليبيا. مؤتمر “تحكيمي” بين فرنسا وإيطاليا المندفعتين في الخصومة حول ليبيا، تحاول فيه ألمانيا لعب دور “الحكيم” الأوروبي الذي يدرك تداعيات انفلات جنوب أوروبا وتحوّله إلى بؤرة صراع دولي تنعكس تداعياته على أوروبا أساسا.

لكنّ هذا الدور الألماني “الإيجابي” (بالمقارنة) رغم خلفيته التي تحكمها مصلحة اقتصادية/ سياسية ألمانية أكيدة (والذي نشهد صداه الخافت هنا في تونس)، يصطدم بدور روسي جديد في العالم وفي المجال العربي تحديدا. يبدو أن روسيا تحتفي بالاختراق السياسي النوعي الذي حققته في سوريا حيث عادت إلى الساحة الدولية لأوّل مرة بعد سقوط سلفها الامبريالي (الاتحاد السوفياتي)، ونجحت في “افتكاك” دور شرطيّ عالمي “شريك” للقوّة الأمريكية التي يبدو أنها لم تنسجم مع دور القطب العسكري الأوحد في العالم، بما دفعها إلى استدراج ما لبوتين القوميّ ال”سوفياتيّ النشأة والتفكير” ليحضر في سوريا.

وها هي روسيا منذ 2015 يصير لها في قلب منطقة النزاع العالمي المستمرّ منذ قرن حضور عسكري ميداني كاسح نجح في منع بشار الأسد من السقوط أمام ثورة شعبه على نظامه الاستبدادي المخابراتي الدموي. تحضر روسيا في سوريا بجوار اسرائيل وتركيا والعراق، بتنسيق ميداني معلن يشبه “المناولة” أو التفويض الجزئي والوقتي من أمريكا. أمريكا التي ارتبكت سياستها الخارجية في نهاية ولاية أوباما الذي سلّم ملف المنطقة برمتها إلى ترامب “الروسي”. والحصيلة هناك أنّ الوجود الروسي/ الأمريكي في سوريا يكاد يكون درسا في “نوع” الاستعمار العالمي الجديد من حيث قيامه على المواجهة الإعلامية المضلّلة والتعايش والتنسيق الميداني الدقيق بين قوّتين عالميّتين متنافستين/ حليفتين (تنسيق يشمل اسرائيل حليفهما المشترك، ويشمل إيران – وأداتها حزب الله – حليفة النظام وحليفة راعيه الروسي بالتبعية).

روسيا المنتشية إذن بنجاحها الاستعماري في سوريا تصل إلى ليبيا، أمام أعين القوة الأمريكية طبعا، عبر شركات أمنية خاصّة تتبع المخابرات وتشغّل مرتزقة من كل أنحاء العالم ممّا سيعقّد المهمة الألمانية المنتظرة، ويطيل أمد الحرب المفتوحة في ليبيا.

4. ليبيا: أرض/تاريخ العرب اليباب:

المشهد في ليبيا ليس بعيدا جدّا عن الحرب الكونيّة الاستعمارية في سوريا، وهو حرب امبريالية شاملة تتواجه فيها مصالح جيوستراتيجية على “الأرض اليباب” (عنوان أشهر قصيدة كتبها ت.س. اليوت خلّد فيها حزن الحياة كلّها بعد الحرب الكبرى الأولى) العربية التي حوّلها الاستبداد والاستعمار أرضا “صالحة” للموت اليومي المجاني.

ليبيا اليوم تعيش ما قبل السياسة، أو السياسة العارية من المساحيق التي تخفي التوحّش البشري قبل ظهور فكرة القانون. لم تنشأ فكرة السياسة بالمعيار الحديث على أرض ليبيا. فبعد خروج الاستعمار الإيطالي في سياق هزيمة الفاشية بعد الحرب الثانية (1951) وقيام نظام ملكي ضعيف، جاء القذافي بنظام هجين/ عجيب أخضع به الليبيين بالقمع الدموي ثمّ بالمال الوفير الذي أتاحته له ثروة نفطية ضخمة فصنع به ولاء قبليّا واشترى به تنازل الليبيين عن حقّهم (حقّ لم يشغل حيزا من تفكيرهم طبعا لانشغالهم بالرفاه النفطي العميم) في “دولة” قانون تزرع في مخيال مواطنيها “فكرة الدولة”. مخيال لا يمكن ان ينشأ خارج التعليم الحديث الذي يُملّك المتعلّم مفاتيح الانتماء للعالم الحديث. وحين ذهب القذافي خلّف وراءه حالة تيه سياسي وتاريخي قلّ نظيره في العالم.

حين عادت بعض النخب الليبية المهاجرة من الغرب، وحاول جزء منها (الذين صدّقوا أن الديمقراطية متاحة غربيّا لمن يريد) بناء نواة دولة القانون والمؤسسات على قاعدة ما يعرف عند الليبيين من نسيج أخلاقي/ ديني وعرفي/ قبلي متين، لكنها، فضلا عن أنها هي نفسها مخترقة وفيها من يعمل لصالح قوى أجنبية، اصطدمت بوحشية الأجندات الاستعمارية التي انقضّت على “الكنز” الطاقي الليبي وفرضت علية وصاية عسكرية مباشرة في مشهد غريب عن الزمن العالمي الحديث.

وبعد تسع سنوات من الحرب المفتوحة، ها هي ليبيا رهينة في أيدي شركات النفط والسلاح العالمية. فالنفط لم يتوقّف يوما عن الضخّ في اتجاه آلة الإنتاج الرأسمالية العالمية، والسلاح لا يتوقف عن التدفّق بسخاء إلى أرض ليبيا بحرا وبرّا وجوّا، ليصل إلى أيدي الميليشيات المخدّرة (بعضها مخدّر بالمال وحبوب الهلوسة فعلا، وبعضها الآخر مخدّر بالإيديولوجيا السلفية الجهادية الجاهلة)، رغم كلّ قرارات الحظر الأممي على بيع الأسلحة لأطراف الحرب الليبية (سلاح تتكفّل بدفع أثمانه الخيالية دول عربية عابثة يسكنها وهم القدرة على لعب دور سياسي إقليمي).

خاتمة:

ما يجري في ليبيا مأساة تاريخية لا يستوعبها التوصيف السياسي البسيط: ليست حربا أهلية كما يروّج لها في الصحافة العالمية، وليست أزمة سياسية بين متنافسَيْن على الحكم يختزلهما المحلّلون في حكومة الوفاق الوطني في طرابلس المعترف بها دوليا (شكليّا) والمدعومة فعليّا من تركيا وقطر، وحكومة شرق ليبيا أو قوات حفتر المدعومة من فرنسا والإمارات ومصر وروسيا أخيرا، والمدعومَيْن كليهما بطرق مختلفة وبأقدار متغيّرة من أمريكا (!). ما يجري في ليبيا هو عنوان عطالة عربية تاريخية شاملة زرع بذورها استبداد جاهل وغياب طويل عن عقل العالم، وهو أيضا بنفس القدر عنوان جريمة استعمارية دولية متعدّدة الأطراف تستهدف ثروات ليبيا وسيادتها في ارتداد كوني فجّ إلى همجية النهب الاستعماري العاري من كل القيم التي صاغت الإنسانية في شأنها عهودا ومواثيق كثيرة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock