ساعة “العربي حرير الجو”
كمال الشارني
من ساعة “العربي حرير الجو” إلى التاكسي الدراجة وأيضا الجوجمة،
كان عمري ستة أعوام وبعضة أشهر، عندما أصبحت أزرق تماما من الغضب وأنا أتصرّع طالبا من أبي منقالة مزيفة ذات لون ذهبي معروضة مثل فخ أطفال في حانوت “العربي حرير الجو”، حتى إن تذكرت اليوم ثمنها، فيجب أن يكون وقتها ثروة لأب ريفي يعيش من فلاحة الجبل والغابة والماشية، إنما انتهى “العربي حرير الجو” إلى تسليم المنقالة البائسة لي، وقد عطبتها قبل أن نصل إلى البيت في سركونة الدير العظيمة، لكن أبي لم يقل لي شيئا،
لكن ليس هذا هو الموضوع، بل الاحتكار الشنيع الذي فرضته الدولة، وجعل من “العربي حرير الجو” صاحب المتجر الوحيد حتى مسافة ثمانية كيلومترات سيد التجارة والساعات المزيفة للإيقاع بالأطفال وخصوصا صاحب كراس الكريدي الذي رهن به الريفيين طيلة عقود، لقد حدث ذلك في الزمن الخرافي الذي كانت فيه قارورة البوقا البيضاء بستين مليما للريفيين، وكانت بيضة الدجاجة بعشرين مليما، فيما كانت الدندانة تقتل نفسها من أجل خمس مليمات زائدة للبيضة، وكان الناس وقتها ما يزالون يسموننا، نحن الريفيون: “الأهالي”، الأنديجان “indigenes”، مقارنة بالسكان الواقعيين، ذوي الحقوق الكاملة، الذين كان لهم منذ الاستعمار متجرهم الفاخر المحرم على الريفيين،
وقد تذكرت كل هذا، بدءا بالساعة المزيفة وصولا إلى ثمن البيضة، بسبب النقاش العبثي بين ممثلي جماعة “التاكسي متاع المطار”، الذين يضربونك حتى يطير منك اللحم الحي والتاكسي الدراجة النارية التي تبشر بكسر الاحتكار العبثي مثل كل الاحتكارات التي صنعتها الدولة الوطنية في إطار معادلة الولاء مقابل الرخصة، إذ أن الناس سيموتون ضحكا إذا علموا أنه ثمة دولة في العصر الحديث تحتكر إسناد رخص التاكسي وأن في هذه الدولة تاكسي يقول لك: “لست في طريقي”، بقي شيئان يستحقان التفسير، الأول للآباء والأمهات الذين يواجهون ظاهرة الأطفال المصروعين من أجل أي شيء حول المدرسة: لقد صرعت وبكيت وأصبحت أزرق اللون في حادثة المنقالة المزيفة، ليس لأنها جذابة، بل بسبب الحرمان من أسرتي وطفولتي وقتها وكان علي أن أخترع مبررات للاهتمام بي وأنا في السادسة من العمر، لقد كبرت وفككت تلك الحالة وأعدت تركيبها لاعتقادي أن الكبار يتصرفون بالطريقة نفسها، المظاهر هي التي تختلف، والثاني أن “العربي حرير الجو” ليس شخصا خرافيا ولا روائيا، بل كان قاطع طريق، لكنه كان أيضا رجلا شهما وشجاعا، وقد جالسناه في طفولتنا المعذبة وهو يصلح دراجته النارية أمام متجره عندما زال مجده ولم يعد يبيع سوى “القاز” وبعض الحلويات الفاسدة بمرور الزمن، وقد اعترف لي بعد أن سجنت أنه قضى في سجون فرنسا ثم تونس أعواما طويلة، وكان هو الذي نبهني إلى أن عبارة “جوجمة” المتداولة في الحديث الشعبي هي تونسة للعبارة الفرنسية “jugement”، وأنه كان كثير الجوجمة في أزمنة أخرى، إلى أن توفاه الله، رحمه الله، وبقيت الجوجمة في التاكسي وفي كل القطاعات، فقط، خانتني الذاكرة عما إذا كنت سألته عن كنية “حرير الجو”، الحرير معروف، أما الجو، جو شكون؟