مقالات

تقديم العاجل على الآجل يعجل بالغرق النهائي الذي لا مرد له

أبو يعرب المرزوقي

في محاولة حول تعثر تشكيل الحكومة أحصيت أمس مراحل الغرق الذي بات على مرمى حجر من مآل تونس. فذكرت ما حصل بعد فشل الإصلاح في بداية السبعينات وحصرته في خمس مراحل هي:

  1. مرحلة الهادي نويرة التي أسست لهشاشة تونس الاقتصادية بأن جعلها بلد المناولة لحل مشكل مادي حلا عاجلا يحول دون التصدي للآجل في بناء القاعدة التنموية المستقلة.
  2. مرحلة محمد مزالي التي فشلت في اخراج تونس من هذا الحل الذي هو من جنس “تدبير الرأس” والذي يسد الآفاق لأنه يواصل حل السياحة بشكل يوطد التبعية وإهمال الحل الزراعي الذي هو ثروة تونس الحقيقية.
  3. مرحلة ابن علي التي بلغت ذروة “مفوزة” كل شيء مع التهديم النسقي للعمق المادي والروحي بتهشيش تونس خلقيا خاصة بعد “فلسفة” تجفيف المنابع وتهديم كل قيم التربية التي كانت في تونس من مفاخر النظام البورقيبي على الأقل في ما يتعلق بحماية الشباب والمدرسة من التحلل والمخدرات.
  4. مرحلة السبسي التي أحاطت بالترويكا قبلها وبعدها واكتفت “بإدارة” الفوضى التي أراد استعمالها للإطاحة بالترويكا من خلال تكوين ما سماه جبهة الإنقاذ.
    وكان القصد إنقاذ بقايا النظام الذي كان هو من المستفيدين منه والذي حمى كل مافياته ولهذا أتوا به.
  5. المرحلة الحالية التي تلت الانتخابات الأخيرة والتي كان ينبغي أن تكون من جنس انفجار مجاري تونس بعد كل “سحاب”.

بحيث إن تونس تبدو قد نكصت إلى نفس الوضعية التي صاحبت مرحلة الترويكا مع عامل تعقيد جديد هو ظهور الزوجين القروي وسعيد.
وهما وجهان لنفس العملة التي قسمت تونس بنفس القسمة التي عليها الإقليم بين إيران وأذيالها من العرب وإسرائيل وأذيالها من العرب.

ولم أتكلم على المرحلة الأولى التي بدأت بحرب أهلية بين قيادات الحزب الدستوري الجديد بسبب الخلاف حول شروط “الاستقلال” التي فرضتها تونس لعزل الثورة الجزائرية بالتخلي عن تونس والمغرب والتفرغ للثورة التي تعود الآن وستخرجها من افريقيا كلها.

وكانت الغلبة فيها لشق بورقيبة بمساعدة الاتحاد سياسيا -عاشور- وفرنسا عسكريا -الجمهورية الرابعة- على شق ابن يوسف.

والعامل الثالث هو أن الاتحاد كان في كل المراحل التي ذكرتها بما في ذلك هذه الأولى دائما أفسد خيار إما ضد الإصلاح أو سعيا للاستحواذ على السلطة.
وأعتقد أن موقفه من الثورة قبلها يعارضه موقفه منها بعدها لما تبين له وخاصة لمخترقيه من القوميين واليساريين أن الشعب يرفض تمكينهم من السلطة.

وكل من اختار صف المعارضة بقيادة الشابي هم تقريبا من يحاولون حاليا الكلام باسم الثورة بنفس شعارات تدعي الثورية رغم انحيازهم ضد من يختارهم الشعب بدلا منهم. وقد انضم إليهم فتات حزب المرزوقي وما بقي من الجبهة الشعبية.

لو لم تكن أجهزة الدولة -وخاصة الجيش الوطني وغالبية الأمن الوطني- حريصين على النأي بالنفس لحصل ما يطالبونهم به أعني البيان عدد 1.
لكن قوتي الأمن والدفاع لم تكونا ميالتين للانقلاب الذي كانوا ولا يزالون يحلمون به تبعا لنماذجهم في الأنظمة الفاشية قومية كانت أو شيوعية.

وأكثر من ذلك فإني دون أن أبرئ ابن السبسي لا أعتقد أن سلوكه وسلوك أسرته كافيان لتفسير تفتت النداء بخلاف ما يدعيه الشاهد وأبواقه.
فما فتته هو بالأساس خطأ استراتيجي وقع فيه السبسي نفسه عندما تصور أن التوازن مع الإسلاميين يمكن أن يحصل بغير المصالحة الصادقة معتبرا اللجوء إلى نفس حل بورقيبة صالحا دائما.
فاعتمد على الاتحاد وضم إلى حزبه مخترقيه من اليساريين ومعهم بعض القوميين.
ومن أسقط النداء هم هؤلاء وليس التوافق مع النهضة.

وغير صحيح أن النهضة هي التي فتتت النداء لأنها هي بدورها خرجت منهكة من التوافق وخسرت ثلثي قوتها.
وإذا واصلت سياسة التشبث بالحكم بدلا من مراجعة نفسها واستعادة قاعدتها فإن مآلها سيكون مثل النداء.
وقد مر هذا الخسران بمرحلتين:

  1. الأولى عندما استحوذ المرزوقي على جل قاعدتها الشبابية بتواطؤ من بعض القيادات الوسطى.
    وهي مغامرة عارضتها وسعيت ما استطعت لإفشالها لأن نجاح المرزوقي سنة 2014 كان يعني نهاية الحركة الإسلامية في تونس.
    إذ كان سيكون جنرالا بجيش مستعار لا يعنيه المحافظة عليه بقدر ما يحقق له ذلك زعامة لن يدفع مقابلها الذي كان سيجعل تونس تنتهي إلى الوضع المصري.
  2. والثانية عندما لجأت القيادة إلى أسوأ مما حصل مع المرزوقي خوفا من فقدان السيطرة على الحركة.
    فخذلت مورو وأيدت الرئيس الحالي بسبب الحاجة إلى استعادة بكارة الثورية التي لا يصدقها عاقل.

وبخلاف ما يتصور الكثير فإن الصدام القادم إن لم نتدارك تونس.
ولن يكون الصدام بين النهضة وممثلي النظام القديم الذي انضمت إليه كل الأحزاب وريثة “الزعماء” الذين لفظهم الشعب مثل الشابي والمرزوقي والسبسي لفظ النوى.

فهم لم يعوا بعد أن المعركة ستكون بين لاعبين جديدين أفرزتهما الانتخابات الأخيرة:

  1. اللاعب الأول هو الرئيس الذي قد يصبح رئيس أكبر حزب إذا خرجت إيران من أزمتها الحالية في الهلال من لبنان إلى العراق وتواصل تصديق الشباب لخرافة تغيير نظام الدولة علاجا لأدواء تونس.
    فالشباب اليائس والفاقد للثقة في الأحزاب التي تدعي الثورية وخاصة في النهضة التي بدأت تفقد المصداقية بسبب المناورات القيادية في داخلها قد يصبح قوة ضاربة تلغي الحياة الحزبية والسياسية لتؤسس فراغا تملؤه ميلشيات الملالي.
  2. واللاعب الثاني هو القروي الذي قد يصبح ثاني أكبر حزب إذا تواصل تردي مستوى المعيشة وتضاعف عدد المحتاجين لما يلعب عليه القروي من جعل المسألة من جنس ما تراه إسرائيل وأمريكا في القضية الفلسطينية أعني مسألة رفع مستوى الحياة لجعل الجوعى ينسون معنى الحرية والكرامة.

ولذلك وكما بينت منذ اليوم الثاني من وفاة السبسي أن النهضة لن تحكم بعده.
وحتى لو تمكنت من تشكيل الحكومة فإن من يشاركونها فيها ستكون لهم اليد الطولى لمنع حكمها الفعلي و إفشالها بصورة يمكن اعتبار ما حدث مع الترويكا لعب أطفال.
إذ سيؤول الوضع إلى “فاييت” مطلقة.
وأكبر دليل على ما أقول نذالة الشاهد الذي يتنصل من مسؤوليته في تردي وضع تونس ويريد أن يشتري بكارة بالانضمام إلى المعارضة بدل تحمل المسؤولية مع النهضة لمواصلة المشوار الذي تعاقد معها عليه لما انقلب على السبسي.

ثم إن كل الأحزاب التي وصفت مجمعة على الاستفادة من فرصة إفشال النهضة

  • أولا للحصول على المقابل الموعود من الثورة المضادة.
  • وثانيا حتى يتمكنوا من تحجيمها إلى حد يفقدها الوزن الذي يجعلها الأولى وتصبح في أقصى تقدير مقبولة كمعارضة ثانوية من جنس ما يوجد في الجزائر أو في الأردن.

أعود إذن إلى المرحلة الأولى التي لم أتكلم عليها.
فرغم أني في ذلك الوقت لم أكن في سن تمكن من فهم ما يجري وكان يمكن ألا أذكر هذه الحرب الأهلية لو لم أعش حادثة ذات صلة مباشرة بها.
فقد أتهم والدي وأخي الأكبر بعض خصومهما بحيازة سلاح وتأييد اليوسفية فحوصرت الأسرة من “الجارد موبيل” ولم يغادروا إلا بعد نزع سلاحنا الوحيد وهو بندقية صيد -مقرون- إذ لم يكن لدينا سلاح آخر.
وهي أداتنا الوحيدة لحماية أنعامنا من مافية السراق بتواطؤ من “الخليفة” (مثل المعتمد حاليا) الذي كان يساوم الفلاحين لدفع مقابل استرداد أنعامهم.
وقد سمعنا القصص حول ما فعل ببعض اليوسفيين وقد يكون فيها الكثير من المبالغات.
لكني أذكر الشاحنات العسكرية الفرنسية التي كان فيها بعض “الدساترة” من صف بورقيبة ومعهم عسكر فرنسي يلاحقون بعض “الدساترة ” من صف ابن يوسف.

لماذا أذكر هذه القصة؟
لأن لي شعورا غامضا يجعلني أعتقد أن تونس على شفا جرف هار قد يوصلها إلى ما يشبه نفس الأمر لأن الكثير من تلك الظاهرات عادت وخاصة الحاجة إلى حماية الأنعام من اللصوص وتكاثر الجرائم التي من جنس ما كنا نخشاه في أزقة المدينة في تونس في بدايات الاستقلال من هجومات للسلب والنهب -البراكاجات- وهي أمور لم يكن أحد يتصور أنها يمكن أن تعود بعد أن انقرضت إلى حدود ما بدأ يحصل بعد الثورة.
ولا يمكن أن يكون ذلك بسبب البطالة والفقر وخاصة الحاجات التي صارت من مطالب الشباب العاطل بعد أن تعودوا على حاجات لم تكن ضرورية في عصرنا مثل المقاهي و”الكيف” وحتى المخدرات.
بل لا بد أن يكون لذلك توظيف وهي إذن بقيادة مافية ما هدفها الفوضى لأسقاط التجربة الديموقراطية.
وهي أحد فروع الإرهاب.
والأحداث اليوم -الوردانين- تكشف الشبكات التي تديرها وتدير معها العمليات الإرهابية والتهريب بكل أصنافه.

ما يعنيني من وجه التشابه هو الوصول إلى نتيجة هي مغزى القصة:
ألا يكون ما مرت به تونس خلال الستين سنة الماضية من الحلول المرتجلة التي كانت كلها تتميز بتقديم العاجل على الآجل قد جعلتها لا تخرج من سياسة رد الفعل التي تشبه تراكم المعارك الخاسرة والحلول الفاسدة التي خالفها يقرقع سالفها فتتراكم السلوب ولا يحصل أدنى تقدم إيجابي لإخراج تونس مما كانت تعاني منه من تخلف سابق على “الاستقلال” ما يعني أننا بصدد العودة إلى ما قبله؟

إذا كان ذلك كذلك فهل نيأس ونعتبر أن ما سيحدث لا مرد له؟
لو كنت من الذين ييأسون لما حللت الأوضاع ولما كتبت فيها شيئا.
وخاصة في هذه الحالة التي لم يعد فيها أي إمكانية للهروب من القرارات التي تقدم الآجل على العاجل والإقدام على الحلول التي ما تزال ممكنة إذا توفرت الشجاعة السياسية الكافية وعلم الجميع أن ”ظهر البهيم وفى”.

وكل القرارات قابلة لأن تجمع تحت عنوان واحد.
وهو عكس ما يجري حاليا بالكلية.
وقد نصحت بعض قيادات النهضة بأن تضع شرطا وحيدا للقبول بتشكيل حكومة.
وهو أن تكون الحكومة حكومة وحدة وطنية لعلاج المسائل التالية التي تمثل كشفا على وضعية تونس التي ينبغي تداركها في الدورة الحالية مدة سنواتها الخمسة.
وإلا فإن الكلام على الديموقراطية يصبح كذبة لا يصدقها أحد.
وتعود تونس إلى معركة بين إيران وإسرائيل و”الحكم” هو فرنسا.
وكل السياسيين سينضمون للمافيات الحالية وتصبح تونس مثل جنوب إيطاليا وبعض بلاد أمريكا اللاتينية.

والتشخيص حسب رأيي يعود إلى وظائف الرعاية التي من دونها لا معنى للحرية ولا للكرامة ناهيك عن السيادة التي يزعمونها لتونس والتي هي ما تزال محمية لا سيادة لها وخاصة بعد أن “تعرت المذابح”.

والرعاية نوعان تموينية وتكوينية.
وكلتاهما مضاعفة ولها أصل وحيد.

أولا في الرعاية التموينية:
لا بد من الجواب الصريح والواضح على سؤالين يتعلقان بها:

  1. ما الخيار التنموي الاقتصادي الذي نتج عن سياسة تأجيل الآجل وتقديم العاجل؟
    فتراكم طيلة ستة عقود جعل تونس مطلقة التبعية في شروط البقاء المادية والعيش الكريم.
    وكيف يمكن الخروج منه بخطة محددة المراحل والكلفة؟
  2. ما الخيار التنموي الثقافي الذي نتج عن سياسة تأجيل الآجل تقديم العاجل؟
    فتراكم طيلة نفس المدة جعل تونس مطلقة التبعية في شروط البقاء الروحية والعيش الحر.
    وكيف يمكن الخروج منه بخطة محددة المراحل والكلفة؟

ثانيا في الرعاية التكوينية:
لا بد من الجواب الصريح على سؤالين يتعلقان بها:

  1. ما الخيار التنموي للتربية النظامية الذي نتج عن سياسة تأجيل الآجل وتقديم العاجل؟
    فتراكم طيلة نفس المدة جعل تونس مطلقة التبعية في تكوين الأجيال بصورة تجعلها تحصل على تكوين لا يصلح لا للدين ولا للدنيا.
  2. ما الخيار التنموي للتربية الاجتماعية في تقسيم العمل المنتج الذي يترتب على التخرج من تكوين منتج لشروط البقاء المادية وشروط البقاء الروحية لجماعة تريد أن تكون حرة وكريمة وحال دونها وهذا الهدف سياسة تأجيل الآجل وتقديم العاجل بمنطق التونسي ذكي يعرف كيف “يدبر رأسه” بالفهلوة.

وأخيرا فما الخيار الذي ترجع إليه كل هذه الخيارات الخاطئة:
إنه عدم وجود استراتيجية وطنية تبني جماعة من الأحرار والكرام يؤمنون بأن تونس تستحق أن تكون ذات سيادة بتوفير شروط بقائها المادية والروحية وجعل التربية بصنفيها من حيث هي تكوين شرط التموين بنوعيه والذي من دونه لا معنى لدولة ولا لسيادة ولا خاصة لحرية وكرامة.
فتأجيل الآجل والاكتفاء بالعاجل فيها جميعا جعل الجميع همه الغش والربح السريع.
والكل يعتبر سر النجاح هو اللصوصية والاستعداد للتعاون مع كل أعداء الوطن على حساب الشعب والأمة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock