تدوينات تونسية

“عين البيّة”

عبد اللطيف علوي

ظلّت “عين البيّة” لسنوات وعقود طويلة، قلب الدّوّار النّابض وسرّة القرية، وثديها المشاع، ثديها الّذي ترضع منه كلّ البيوت والقرى المجاورة على امتداد البصر. ترضع منه كذلك المواشي وسواني الفلفل والطّماطم القريبة، وأحواض الثّوم والبصل والخضر الورقيّة، الّتي تبدأ في الانتشار مع أوائل كلّ صيف، تجاور المنازل أو تحاذي الثّنايا الضّيّقة المتعرّجة في أرض تنحدر كلّما ابتعدت عن العين تلقائيّا ورويدا رويدا، انحدارا رفيقا سلسا، كأنّ الخالق قد بدأ بتفجير العين في اليوم الأوّل، ثمّ تفرّغ في باقي الأيّام إلى ما حولها من تضاريس المكان، فسوّاها وبسطها بميزان، ثمّ أمالها قليلا لتبقى خفيضة ضارعة، ترفع إليها عين الرّجاء، فينسرب الماء عبر السّواقي والقنوات الصّغيرة إلى أطرافها وحواشيها، وينفذ إلى أحشائها المتيبّسة، فترتخي وتلين وتهتزّ وتربو ثمّ تنبت من كلّ زوجين…

عشرات المنازل تتناثر هنا وهناك، تتجمّع حينا وتتفرّق حينا، يعتاش أهلها ممّا تعوّدوا أن يزرعوه عاما بعد عام، ولا يكاد يتغيّر بين موسم وآخر، قمح وشعير وشيء من البقول، حمّص وفول وحِلْبة، كانت سوق الحلبة الطّريّة وجبتنا المفضّلة نحن الصّغار، وكنّا نقضي اليوم كلّه في اللّعب في المروج وداخل أجنّة الزّيتون، نقطع الوقت الطّويل ولا يقطعنا، نتحسّس كلّ ما يخرج من الأرض وما يدبّ فوقها، وحين يداهمنا الجوع، لم يكن أسهل علينا من أن نملأ بطوننا بكلّ ما يرضينا، مائدة الله منصوبة حولنا بلا حرّاس ولا حجّاب، رغم صغرنا حفظنا كلّ أسماء العساليج البرّيّة وخبرنا طعمها ومذاقها، “الحُرّيشة” و”التّالمة” و”التّيفاف” و”كرع دجاجة” و”بزّولة نعجة” و”خوخ جمل” و”البوحليبة” و”مُغزِل اليتيمة”، والتّوت البرّيّ، حتّى سنابل الشّعير الخضراء كنّا نشويها على النّار شيّا خفيفا، ثمّ نفركها بين أيدينا وننفخ عليها فيتطاير السّفا منها وتبقى الحبيبات ناعمة طريّة، نلتقطها من الأكفّ بألسنتنا ونتلذّذ طعمها المحبّب ونحن نمضغها كالعلكة تحت أسناننا…

أيّام العطل، كانت الحقول والمراعي جنّتنا الّتي نرتع فيها من الصّباح إلى المساء، نتحوّل إلى نباتيّين بالكامل، نرعى مع المواشي حيثما ترعى، فتصطبغ شفاهنا بالأخضر الرّصاصيّ، ولا نعود إلى البيت إلاّ وقد امتلأت بطوننا وعيوننا وقلوبنا وتشبّعت كلّ حواسّنا، ننام على رُكَبِ جدّاتنا وأمّهاتنا، أو أخواتنا الكبريات، وقد نستلقي على”السِّدّة” أجسادا بلا أرواح، فقد كنّا نترك أرواحنا معلّقة في أشجار الزّيتون والتّفّاح والمشمش، أو معقودة بزهرات النّرجس وشقاشق النّعمان…

#الثقبالأسود
#أسوارالجنة
#سيرةالثورة
#عبداللطيف_علوي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock