المنجي السعيدي
الثّورَةُ على الاسْتِبْدادِ والتّخلّفِ والرّدَاءة تَناغُمٌ وَتمَاهٍ مَع سُننِ التّارِيخ وإرادةِ الله في الكوْن والمجتمع. قدْ يشُوبُ سيْرُورَتها تعثّرٌ وتعطُّلٌ وبُطْءٌ، لكنّها تظلّ تُقاوِم لأنّها تحْمِلُ فِي جوْهرِها إرادةً قويّةً وتنَاسُقًا مع حَركة الإنْسانِ فِي تطلُّعِه إلى تحْقِيقِ الأفُق المنْشُودِ وبلُوغ أقْدَارٍ منَ الكمَال المُتَاح لهُ والعيْشِ فِي رحَاب العدْلِ والرّفاهِ والحرّية، وهْي مقوّمات أسَاسيّة لا يكْتمِل جَمال الكوْنِ إلّا بوجُودِها وتَوَزُّعِها بيْن جمِيع المُتمَوْقِعِين فِيه واسْتِمْتاعِهم بها، فلا جمالَ لكوْنٍ فِيه اسْتِبْدادٌ، ولا جمال لكونٍ فِيه فقْر واحتِيَاجٌ، ولا جمال لكوْنٍ لا يتمتّع أهْلُه بالحرّية والسّلام.
ولِذلِك ظلّت حَركة التّارِيخ ترْتَقِي دَائِما نحْو الجمالِ باعْتِبَارِه معنًى رفِيعًا لا يُدْرِك كُنْهَهُ إلّا الثّائِرُون على مَظاهِر الرّداءة وَوَحْشِيّة الاسْتبْداد، والذِين يقُودُون ثوْرَتهم ويَرْعوْنًها وهْي تشُقّ بهم عبَاب موْجٍ مُتَلاطِم من العَراقِيل والمؤامَرات والوَضَاعة والسّفالة والرّداءة، تشْحَذُ هِمَمهُم بما ترْسُمه فِي أفُقِها منْ رحًابةٍ، وتُغْرِيهم بما تكْشِفُ عنْه رغْم العَتَمَة من مَظاهِرِ الجمَال الكامِن فِي تجَلّيَاتِ لحْظةِ الانْتصَار وتحْقِيقِ حُلْم المُسْتضْعفِين فِي العيْشِ الكرِيم وكسْرِ كلّ مَكَامِنِ المهَانَة والذّلِّ واسْتنْشاقِ عَبقِ الحرّية، فيزْدادُون عشْقًا لها وانْجِذَابًا نحْوها، لِتزِيدَهم روْنَقًا وألَقًا وتوَهّجًا. وبِقدْرِ مقَاومة الثّورة لمسَاعِي الجذْبِ إلى الماضي والنّكوص على الأعْقابِ والحنِين إلى العبوديّة والارْتِهان، وانْجازِها لأقْدارٍ من النَّجاحَات فِي اخْتِراقِ موْجَة الخوْفِ والإحْبَاط والتّردُّدِ والتّآمُرِ والظّلام، بقدْرِ ما يجْتمِع حوْلها الأنْصارُ ويشُدُّ أزْرَها الشّرفَاء، فتقْوَى بِهم، ويزْدادون دعْمًا لها وشغَفًا بها، لِيَتحقّق حِينئِذٍ انْسِجام الإرادة الإنْسانيّة الوَاثِقة فِي المسْتقْبَلِ مع حركة التّارِيخ السّائرة إلى الأمام بِلا رِجْعةٍ إلى الوَراء، ليكْتمِل جمال المشْهد فِي الوجودِ، لأن الجمال أصيل فِي الكوْن أصالة الحق والعدْل والحرّية والحبّ والسّلام، ولأنّ الكون نابِعٌ من الله الحكِيم والجمِيل وليس من الصدْفة التّائهة والعمْياء ولأنّ الأحْداثَ الكُبْرى -كما يُسمِّيها فلاسِفَة التّاريخ- تُحِيط بِها الأنَفةُ ويكْسُوها البَهاءُ.
كذلِك كانت الثورة التّونسيّة، فِي كلّ يومٍ لها تجمُّلٌ وتَزَيُّنٌ، وهي مستمِرّة تُقاوِم، وفِي كلّ محطّةِ يلْتحِقُ بِركْبِها المُعْجبُون بها، وهْي تُحقِّقُ فِي تونس العربيّة المسْلِمة ما لمْ يخطُرْ يوْمًا على بَالِ أحدٍ من المعاصِرِين، ولمْ ينْعم بِرؤيَتِه فِي الحلْم حتّى القُدماء ولمْ يتجسّد قبْلَ حصُولِه حَاضِرًا إلّا فِي قلوبِ الشّهداء.
طبرقة
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.