بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
أقرأ هنا وهناك عبارة “الاستثناء التونسي”. لكنّني لم أقتنع يوماً بمضمون هذه العبارة. والسبب، أن تونس ليست استثناء، إنّ ما يجري فيها هو الأصل الذي يجب أن يكون، ولأنّه الأصل، وجد كلّ هذا التعاطف في مشارق البلاد العربية ومغاربها وفِي العالم.
لذلك يجدر أن نتساءل : لماذا تحقّق هذا الانتصار في تونس بهذه الكيفية ؟
عندي، عنوان هذا الانتصار هو النجاح في إدارة الاختلاف ! جميع التونسيين ساهموا في صناعة قصة كبرى اسمها إدارة الاختلاف ! وهو الأصل الذي ينبغي أن يكون قبل الحديث عن أي إنجاز إطلاقا. والدليل على ما أقول يمكننا استلهامه من تاريخنا كمسلمين: أول ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم، لبناء دولته في المدينة، هو إصداره الصحيفة، صحيفة المدينة، وفِي طيّها دستور بثلاث وخمسين بندا، خُصّص أكثر من ثلاثين بندا منها لإدارة الاختلاف القبائلي والديني، بكل طيف التنوع والتعدد الموجود زمانئذ داخل المجتمع العربي المسلم الجديد، ويمكن لأي قارئ أن يطّلع على بنود صحيفة المدينة (أي دستورها)، ويتحقّق بنفسه مما أحبّره ههنا.
نحن معاشر العرب في هذا الزمان، فرّقنا الاستبداد ورأسماله الجهل، ففشلنا في إدارة التنوع والاختلاف، بجميع تصنيفاتنا الأيديولوجية، لأن كلّ صنف منا يعتبر نفسه هو الحقيقة ذاتها ولا شيء دون ذلك، ومن آمن أنه هو الحقيقة المطلقة تنرجس، فما يبقى له من خيار سوى استئصال بقية الفصائل المذهبية من الخريطة! وهكذا، أنفقنا عشرات السنين في وهم امتلاك الحقيقة المقدسة، وحتى الذين يحاربون الربيع العربي الْيَوْم، إنَّما يحاربونه تحت هذه الراية : راية امتلاك الحقيقة المقدسة، ورفض إدارة التنوع والاختلاف لا بل رفض التنوع والاختلاف أصالة، ومعالجة الاختلاف بالقتل والسحل والسجن والتهجير والتدمير، كما نراه في اليمن والشام ومصر وليبيا، مع بالغ الأسف.
لقد قال العلامة جلال الدين الرومي رحمه الله: “الحقيقة مرآة نزلت من السماء على الأرض فتهشّمت، وأخذ كل إنسان قطة منها وادعى أنّ قطعته هي المرآة كلّها” ! وهذا المثل الرائع جليّ وواضح، ويدلّ على أنّ المرآة -التي هي الحقيقة في المثل- لا تكون إلا ثمرة كلّ القطع؛ حين توضع بانسجام جنباً إلى جنب، لتشكّل وجه الحقيقة الجماعية المشتركة !
ولذلك، أعتبر أن جهود التونسيين كانت كتلك الجداول الصغيرة التي سالت في اتجاه واحد حتى تشكل منها نهر كبير. وأخصّ بالذكر عوامل كثيرة مهمة، من بينها:
• بناء المؤسسات : التونسيون بنوا مؤسسات ولهم وعي الدولة، مؤسسات أثبتت فاعليتها واستقلاليتها رغم التحديات والخروقات: الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مؤسسة الجيش الشعبي، مؤسسة الأمن الجمهوري، مؤسسة العدالة الانتقالية، مؤسسة مجلس نواب الشعب، مؤسسة الحكومة المستقلة عن الرئاسة، مؤسسة رئاسة الجمهورية، المؤسسة القضائية، وغيرها. على أنّه بقيت مؤسسة الإعلام عرضة للفساد المالي وغابت ومؤسسة المحكمة الدستورية ومؤسسات أخرى في حاجة لاستكمال، أخّرها النزاع المزمن والتطاحن الحزبي.
• حرية الضمير : التونسيون أداروا اختلافهم بالكلام لا بالرصاص، واستفاد الجميع من أجواء الحرية حتى تجرّأت بعض النخب على مقدسات دينية بشكل صادم، لكن بقي الخلاف كلاميا، وهذا الأصل في الشيء، كما روي عن معاوية قوله : “دعوا الناس يقولون، فإذا فعلوا فخذوا على أيديهم”! وكل الشعوب التي حكّمت الرصاص بينها، دخل فيهم العدوّ ودمّرهم وشرّدهم. الرصاص إذا تكلّم في داخل شعب من الشعوب، لا يسكت حتى يُسكت آخر رضيع تلده النساء فيهم!
• التونسيون كانوا على درجة من الوعي : وهذا هو الأصل، فالجهل مصيبة المصائب وكارثة الكوارث. وبوعيهم فهموا جيدا لعبة الإعلام القذر، ولعبة مال دولة المؤامرات، وبوعيهم فهموا أن جميع الثورات المضادة فشلت في استتباب الأمن وفشلت في بسط الرخاء، فهم لا يريدون ثورات مضادة ولا ثورجية مارقة.
• التخلّص من صنمية القادة : لم يعد للقادة تلك الهالة الصنمية التي بناها الاستبداد طيلة سنين طويلة. أذكر لما كنت طفلا، أن التونسيين على بكرة أبيهم يقولون: لو مات الزعيم بورقيبة فتونس (ستخلى)، من الخلاء والخراب ! ولقد سمعت هذه الاستطوانة طيلة ينوات طفولتي، وذات يوم، انتهى بورقيبة، ولم تسقط السماء على الأرض ! كما أن التداول على السلطة بين الرؤساء منذ الثورة، جعل فكرة التعلق بالزعيم الملهم المفدّى الذي لا يضاهيه سابق ولا لاحق أضحوكة. وفِي هذا الإطار أحذّر من كلّ توجّه نحو صناعة وهم حول الرئيس قيس سعيد فهو يرفضه ويلفظه عن طريق سلوكه المتواضع وإصراره على البساطة ورفضه حتى أن تكون زوجته هي السيدة الأولى! وهذه علامات في الرجل تدل أنه يرفض فكرة الصنمية ويستمد كل شرعيته من شعبه الذي اختاره بنسبة عالية جدا من الأصوات!
• التخلّص من مرض الحزب الواحد : لا يوجد الْيَوْم في وعي التونسيين الحزب الواحد الأوحد، والرأي الواحد، فكلّ شيء قابل للنقاش والحوار والأخذ والردّ من جميع الأحزاب، فلا يحق لحزب احتكار النضال ولا احتكار الحقيقة ولا احتكار التكلم باسم الشعب.
• العزوف عن التجاذبات والفرقة والشحناء : بعد تسع سنوات من الثورة، ملّ التونسيون وسئموا وضاقوا بكلّ التجاذبات والمكائد ومنطق الاستعداء والاحتراب، حتى أنهم تركوا الإعلام وشأنه يفعل الأفاعيل في البلاد دون رادع، ولم يخسر الناس سوى ضغطة على زر وتغيير القنوات في حركة لامبالاة عامة عجيبة. وهذا العزوف، هو الذي يفسر قلة الإقبال على الانتخاب بعد أن قام الإعلام بترذيل الفعل السياسي عبر توظيف الإعلام الجماهيري للتمترس الأيديلوجي وتسميم العقول بمحتويات تعكس الضغائن وتثير الأحقاد. ولأجل ذلك اندفع الناس إلى الإعلام البديل حيث وجدوا ضالتهم في مكافحة الجراد الإعلامي المأجور.
هل هذه الأشياء مستحيلة عند بقية الشعوب التي تشترك مع تونس في اللسان والجغرافيا والتاريخ والمصير؟
عندي، هذه الأشياء في متناول الشعوب شريطة أن تجري مراجعة عميقة للثقافة المحلية الموبوءة بوباء الاستبداد الذي طالما استثمر في الجهل والتفريق بين الناس.
ما نشاهده يوميا -على سبيل المثال- على أرض الجزائر من حراك سلميّ قارب السنة هو أمر مبهر جدا، ويخبر أن الجزائريين هم قاب قوسين أو أدنى من اقتلاع منظومة الحقرة والفساد والزيف التي ظلت على صدورهم عشرات السنين.
وجميع الشعوب تتوق إلى حياة حرة أبية، لأن جوهر الربيع العربي -بكل عناوينه وتشكلاته- يلتقي في نقطة واحدة هي المطالبة بتحكيم إرادة الشعب. وجميع الحروب الأهلية التي تم إشعالها تتم الْيَوْم من أجل وأد هذا الحق. هذه الشعوب الذي ظلت لمئات السنين خارج حلبة الصراع في بلداننا العربية والمسلمة، حتى استبطنت شعورا غريبا هو أن الدولة ليست ملكا للشعب بل هي ملك الحاكم، كما ورث الحكام فكرا متخلفا وهو أنهم اعتقدوا أن الناس هم بمثابة قطعان من المواشي؛ يملكونهم كما يملكون الدواجن في حدائقهم. لقد ولّى هذا العهد إلى غير رجعة، وعبر الرئيس قيس سعيّد عن ذلك بعبارة غاية في البلاغة حين قال : لقد خرج العصفور من القفص ولن يعود إليه ولن يرضى بالفتات ! وهذا هو جوهر الحداثة في حقيقة الأمر، وليس تلك الحداثة المزيفة التي يروّج لها التعساء لكي تتغرق الناس في غرائزية بهيمية قاتلة، ولا يوجد للحداثة وجه إن لم يكن فيها هذه الصورة من تحكيم إرادة البشر والاستجابة لمطالبهم في حقهم الكوني في حياة حرة كريمة ورغد عيش وتحقيق الذات وفتح الآفاق للإبداع والخلق، والسفر مع بقية الإنسانية في نفس القاطرة.
وستلاحظون أن العالم أجمع يتابع – صامتا- ما يحدث في بلادنا، ولن يساعدنا أبدا إن لم نسعف أنفسنا بأنفسنا. يكذب عليكم من يقول لكم سنساعدكم. لن يساعدوننا إلا على استعباد أنفسنا. ولن يحكّ جلودنا مثل أظافرنا. لنكتب هذا في نواصينا، ونتقدم. وإذا توقفنا فاتنا القطار، وورّثنا لأولادنا العار.
✍🏽 #بشير_العبيدي | باريس، صفر 1441 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَالاللاصْنَعُ أمَلًا |
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.