مقالات

اللغز لم يبق لغزا

أبو يعرب المرزوقي

لو نجح القروي لسهل افتراض التزييف لأن فشله كان متوقعا ليس لأن الشعب التونسي غالبيته فاضلة بل لأن عيوب الرجل بينة للجميع. أما وقد نجح سعيد فمن العسير اتهام الانتخابات بانها زيفت لعكس المتوقع في الحالة الأولى. لكن النتيجة مع ذلك تمثل لغزا محيرا.
ذلك أنه بعملية حسابية بسيطة يتبين أن مجموع ما حصل عليه سعيد في الانتخابات (ما يفوق الثلاثة ملايين ناخب) يساوي ما يقرب من ضعف ما حصلت عليه كل القوى السياسية مجتمعة في الانتخابات النيابية وهو ضعف ما حصل عليه السبسي والمرزوقي في رئاسيات 2014.
وهذا لغز يعسر فهمه او قبوله. وإذا كان يوجد من يعتبر ذلك طبيعيا ومعقولا فينبغي أن يكون مجنونا أو يؤمن بالسحر والمعجزات. والحمد لله لم أصل إلى هذا المستوى من جنون العبقرية التي تعتبر “الشباب” مطلق العلم بالحقيقة وممثلا للحكمة الربانية.
وواضح المعركة بدات ولم تنته كما قد يظن أصحاب الفكر السطحي من أصحاب العنتريات والمؤمنين بالمعجزات وبعودة ثورة 17-14. ورغم أن النتيجة ليست بعد نهائية إذ قد يقدح الطرف الثاني ومساندوه فإن محاولة فهم اللغز واجبة. وقد يكون من علامات القدم المتوقع عدم حصول ما هو معتاد في مثل هذه الحالات:

  1. لم يهنيء المنهزم المنتصر بالنتيجة.
  2. ولم نسمع تسليما بقبول النتيجة في القوى الدولية.

لكن ما يشير إلى المسار الذي يمكن أن يساعد في الوصول إلى افتراض حل مقبول عقلا لهذا اللغز هو أن المرشح الذي نجح كان سينجح حتى لو لم يصوت له كل من صوت لكل القوى السياسية في النيابيات الأخيرة أعني أنه كان يمكن أن ينجح بأكثر من الخمسين في المائة حتى لو نصحت كل الاحزاب كل منخرطيها ومحبيها بعدم التصويت له. فهل معنى ذلك أن كل القوى السياسية على خطأ وليس فيها من يمثل إرادة الشعب التونسي إلى حد امكانية الاستغناء عنها في تقرير مصيرها السياسي؟
يصعب أن يكون الجميع على خطأ ويعسر أن يكون المصيب والمعبر عن إرادة الشعب شخص ليس له أدنى تاريخ نضالي وأدنى خبرة في السياسة وأدنى انجاز في مجال آخر يثبت أنه عبقرية زمانه ووحيد عصره وفي مرتبة لم يصلها في التاريخ أي رسول أو فلتة حتى بما ينسب إلى بعضهم من معجزات.
قد يصدق ذلك من يفهم في معارك الكرامة مستغنيا عن النجاح في ما عداها من الامتحانات حتى في الاستعداد للحياة الفكرية والسياسية. لكن حتى لو لم أكن ممن يفهمون في معارك الكرامة وفي السياسة فإني ما زلت لم أصبح “أبا سعدية” أو “أمك سيسي”. ما زلت أومن بالعقل السليم ولا أصدق مثل هذه المهزلة.
وهو ما يوجب أن نفترض أن ما حدث لسعيد قابل للتفسير بالتناسب مع ما حصل للقروي وبالقياس إلى ما حصل للقوة الضديدة للقوة التي تساند. فهما قوتان تسعيان إلى الهيمنة على الاقليم كله بأساليب الحرب الحديثة التي تفسر الظاهرة فلا تبقيها لغزا. ولا يمكن أن يكون ما تفعله إسرائيل وإيران مما يمكن أن يعتبر استعماله في فهم الأحداث مستندا إلى ما يسخر منه عادة بالقول إنه شماعة نظرية المؤامرة فالأمر بين للجميع وهو استراتيجية صريحة وليس مؤامرة خفية نرى نتائجه في جل بلاد المشرق بدءا بالعراق وسوريا واليمن والبحرين وخاصة في لبنان التي هي بؤرته وقاعدة كل عملياته.
وكلنا يعلم أن إسرائيل لم تخف شيئا في مساندتها للقروي بأدواتها المباشرة وغير المباشرة والقروي لم يبذل جهدا كبير لإخفاء هويته المشبوهة. فالقوة التي حاولت تمريره لم تخف دورها بل شاركت صراحة في محاولة تسويقه. ومن ثم فينبغي أن تكون إيران هي الضديد الذي يناظرها في المعركة وهي معروفة بألا تظهر عملها إلا بعد أن يصل إلى عدم الرجع أي النجاح الثابت لمركوبها حتى تبقي المصالح المختصة بحماية أمن الوطن في غيبوبة أو تجعلها متواطئة بأساليب كلنا يعلم طبيعتها.
فإذا لم ننس:

  1. الفريق الروسي الذي كان يفحص السجلات المدنية في تونس وأمسكت به الاستعلامات في بنزرت بالذات.
  2. وإذا لم ننس أبواق الملالي وخلاياها في تونس واختراقاتها.
  3. وإذا لم ننس حملة التسجيلات الأخيرة في قوائم الناخبين التي بلغت مليونا ونصفا.
  4. وإذا لم نغفل عن كون نتائج سعيد يساوي ما تتجاوز به كل القوى السياسية مجتمعة لهذا الرقم تقريبا.
  5. وإذا لم ننس ما حصل في انتخابات أمريكا ونجاح ترومب رغم أنف حزبه وعكس كل التوقعات وبتدخل بين من نفس المافيا الروسية فإن اللغز يمكن ألا يبقى لغزا.

وليس في هذه الفرضية تحقير للشعب التونسي أو تشكيك في ذكائه أو اخلاصه للوطن لأن ما حصل في أمريكا وهي أعرق ديمقراطية لا يمكن أن يكون مثيله فيه شيء من الاحتقار للناخب التونسي. فهذا من فنيات الحروب الحديثة التي تعمل على اللاوعي في التوجيه الذي يشبه التنويم المغناطيسي الذي يجعل الخاضع له يفعل ما يؤمر عن بعد أو خلال التنويم.
لكن ليس هذا هو المهم: المهم هو معرفة من المستهدف ومن المستفيد؟
والمستهدف خصمان لهذين القوتين المتصارعتين على احتلال الإقليم:
1. مباشر هو آخر حركات الإسلام السياسي في الإقليم وآخر بلد ما زالت الثورة فيه لم تسقط. وهو أمر يتعلق برهان كبير وكبير جدا إذ هو رمز محاولة شعوب الإقليم الخروج من الاستثناء التاريخي. وما حصل في الانتخابات ضربة قاضية لهما معا وليس نجاحا كما يتوهم بعض “الأذكياء” الذين يفهمون في معارك الكرامة.
2. وغير المباشرة هو تحقيق شروط نجاح الحرب الحديثة أي استهداف النسيج واللحمة في المجتمع والدولة كما حدث في سوريا والعراق واليمن والبحرين وبقية دول المشرق.
والآن من المستفيد؟ واضح أن الذيلين ومن ورائهما كلهم مستفيدون ومجمعون على هذين الهدفين:

  1. القضاء على الإسلام السياسي حتى ما كان منه يحاول التحول إلى حزب مدني يفصل بين الديني والسياسي.
  2. القضاء على الثورة وخاصة في تونس حيث تبدو قد نجحت نسبيا وما تزال تمثل نموذجا في الإقليم.

ومن ثم فالتعاون بين إيران وإسرائيل رغم التنافس بينها تماما كما حدث في المشرق.
والسؤال هو: ما الهدف؟ وهل هو مشترك بين هذه القوى التي تريد منع الإقليم من الخروج من الاستثناء لئلا يعود إلى دور تاريخي كوني كما كان في الماضي؟ وما الذي يثبت هذه الوحدة في الاستهداف؟
ينبغي أن يكون ما يخطط له في المغرب من جنس ما حصل في المشرق وأتى أكله فيه. لا بد من جعل “تونس” قاعدة لهما في المغرب كما فعلا في المشرق أي لا بد لهما “لبنان” جديدة لتكون ساحة معركة في التسابق المجانس للتسابق الذي حصل فيها وفيه تكب “نقطة الزيت” أو الفتنة التي ستسيح وتتمدد على المغرب الكبير مثلها فعلت في المشرق الكبير.
لو كان في تونس مصالح استعلاماتية تعمل بمعايير علمية فتبحث في الأمور بمنطق يقبله العقل لكان هذا هو المسار الذي ينبغي اتباعه في فك شيفرة اللغز الذي لا يقبله عقل من دون تفسير بسنن التاريخ وقوانين الاجتماع.
فما يحدث في تونس لا يختلف عما حدث في لبنان فمهد لما حدث في العراق وفي سوريا وفي اليمن وكله بالانطلاق من موطيء قدم هو الفتنة والحرب الاهلية في لبنان حيث مركز نوعي المليشيات الطائفية: ففيها نشأت أهم مليشيات إسرائيل وإيران في حرب بالقلم وبالسيف. تونس في نفس السكة: يريدونها قاعدة لنفس العملية. الهدف هو حرب أهلية في تونس تنتهي إلى قطعة جبن مخترقة هي “مزبلة” الاستعلامات والمؤامرات على المغرب الكبير كله مثلها مثل لبنان في المشرق الكبير.
كان يمكن أن أرقص مع الراقصين فأنال إعجاب من يتصورون أنفسهم مؤمنين بالثورة وهم بصدد الإمضاء على شهادة اغتيالها. لا شيء سيفسد مسارها نحو تأسيس ديمقراطية أول شروط تحقيق المصالحة بين أبناء تونس للتفرغ إلى العمل واستعادة شروط السيادة أعني الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي في الرعاية وفي الحماية.
فمن دون هذين الوظيفتين لأي دولة ممثلة لإرادة شعبها لا معنى للسياسة التي هي فن تنظيم العيش السلمي المشترك. أما العودة إلى القذافيات والعنتريات فستؤجج الحرب الأهلية الباردة التي تمثلها معركة نمط المجتمع والهوية وقد تنقلها إلى مرحلة من السخونة تنتهي بتونس إلى ما نراه في كل بلاد الربيع. ذلك ما يدفعني إلى ما يظنه ذوو الحماسة الهوجاء ابتعادا عن حس الشارع. الحكمة ليست ديماغوجية اتباع الشارع بل محاولة ترشيده ما أمكن الترشيد. ولا بأس إذا تبين أن مخاوفي ليست في محلها فلن نخسر شيئا بمزيد الحذر لتجنب النكبات. ولكني أشك أن تكون قوانين الاجتماع وسنن التاريخ “بنت حلال” فتمنع تونس حق الاستثناء من أثرها عليها حتى “يرقص” أبناؤها على عزف يشبه عزف “صوت العرب”.
والله أعلم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock