مقالات

عن حمة والوطد والمنظومة وآخر الخدمات المعروضة على قارعة المشهد السياسي…

زهير إسماعيل

جدّت بعض الأحداث غير العادية، بعد ما عرفه المشهد من ارتخاء نسبي على إثر إعلان نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، رغم الدخول في حملة الانتخابات التشريعية. إلى جانب ما ظهر من ردود أفعال بدت غير مرتاحة إلى نتائج الاختيار الشعبي، وهذا عادي ومفهموم، ولكن غير العادي ما يتواتر من مؤشرات قد يكون فيها إرباك للمسار أو بعض من مكوناته، وربما استهدافه من خلال مداخل متعددة أبرزها التشكيك في نزاهتها وشفافيتها وهجوم هيئة الدفاع على مكتب وكيل الجمهورية وما قيل عن العبث بمحتوياته، واستهداف قيس سعيّد ووسمه بالسلفية والتطرف. وكان المنجي الرحوي أول المبادرين بالهجوم عليه.
تدقيقات مهمة
سأتحدّث عن الوطد وحمّة لا بكونهما يغطّيان مساحة اليسار وإنّما لتعبيرهما عن اتجاه غالب فيه ولا سيما ما تعلّق بالأداء السياسي والمواقف المعلنة. مع تحفّظي على صفة “يسار” لغياب مقابلها الاجتماعي، ذلك أنّ “يسار الفكر” التقليدي في مشهدنا ليس على يسار الحركة الاجتماعيّة، بقدرما يجاور عبير موسى في أقصى يمينها. وبعامّة مشهدنا كما نراه هو “وسط بلا يسار”: وهذا رأي بسطناه للنقاش، رغم ما يقوم من مؤشىرات تُفْقِد ثنائيّةَ يسار/يمين مصداقيّتَها ومن ثمّ إجرائيّتَها، ولكن في غياب نموذج تفسيري بديل يبقى للقديم حضوره.
وفي سياق الانتخابات الرئاسيّة بمناظراتها ونتائجها طَرْقٌ خجولٌ لهذا الموضوع تغلب عليه الشعبويّة والتعميم المخلّ.
الحديث عن صفة “البوليس السياسي” خصصنا بها الوطد، دون أن يمنع ذلك وجود استثناءات ومراجعات ومواقف في التجربة نفسها. وإنما عن حديثنا عن التيار الغالب وما ارتبط بملابسات النشاة.
السرديّة الغالبة أنّ الوطد كانوا صناعة وزارة الداخليّة في نظام بورقيبة، وهذه شهادة أهمّ رموز اليسار (نجيب الشابي). مثلما كان هذا اعترافا من قبل بعض رموز النظام ومن كان له دور في بناء المؤسسة الأمنيّة (الطاهر بلخوجة). وقبل ذلك كانت صفة البوليس السياسي معطى انتهى إليه عديدٌ من القيادات الطلابيّة في مرحلة الثمانينات خاصّة، من اتجاهات طلابية مختلفة ومنهم رفاقٌ للوطد من فصائل يسارية معروفة.
قبل الثورة، وفي نظام بن علي، اكتشف ضحايا المحرقة أمرا آخر أكثر فظاعة وهو أنّ الوطد جزء من “منظومة التعذيب”، منظومة المجرم بن علي. بل كانوا المكوّن الأشرس في هذه المنظومة البشعة التي تخطّتها هيئة الحقيقة والكرامة بالمحاسبة. ولعلّ عدم استهداف “منظومة التعذيب”، بعد الثورة، وتقديم جلاّديها إلى المحاكمة كان بسبب اكتشاف علاقة كثير منهم بالوطد.
كنت من الذين يظنّون أنّ حمّة الهمامي المنحدر من العامل التونسي سليلة منظّمة آفاق، كان، بعد الثورة، رهينة الوطد ومزايا كمال وإحسان نبيل، وأنّه لن تُغفر له المشاركة في حركة 18 أكتوبر لأنّه قَبِل بمشاركة النهضة الظلاميّة فيها. وتبيّن فيما بعد أنّ رفض الوطد لحركة 18 أكتوبر لم يكن لأسباب إيديولوجية، كما تمّ ترويجه، وإنّما لما يمثّله اللّقاء على مطلب الحرية، رغم اختلافاتها الإيديولوجية، من خطر على نظام بن علي المجرم.
وفي عركة حمّة مع الوطد على باتيندة الجبهة الشعبية، وجدتني “متعاطفا” معه -خاصّة بعد أن لمّح إلى عدم رضاه التام عن مهمة “قطع الطريق”- ولكن مداخلته في المناظرة والتي تفرّد فيها بذكر “الجهاز السري” أثبتت أنّ عركته مع الوطد لم تخلّصه من مزايا كمال وأفضال نبيل الذي كان وراء حملته في الرئاسية وكانت لافتات الإشهار الضخمة في أحياء الفساد البورجوازي تحمل شعار “حمة ولد الشعب… حمة رئيس”.
المتسلفة مردودة
بشر الشابي محامي مصطفى خذر أدلى بوثيقة خطيرة تذكر توفير حمة وكمال مبلغا بـ300 ألف دينار لتنفيذ عملية الاغتيال بغاية إسقاط النهضة، وهو قسط أوٌل، ولكن هيئة الدفاع تذكر المبلغ وتسكت عمّن وفّره (حمة وكمال، ذُكر السبسي عرضا). وحين تُواجَه الهيئة بذكر اسم حمة في الوثيقة تشدّد على أنّ الوثيقة “خواطر وخيال”، ولكنّها اعتمدتها حجة في جرّ خذر إلى ملف اغتيال البراهمي واعتبار المبلغ المذكور من اكتشافات “الغرفةالسوداء” التي سكتت عنها النيابة .تجمير البايت، والإيهام بأنّ للصباب ما يقدّمه.
يبدو أنّ تفرٌد حمة بذكر الجهاز السرّي في المناظرة هو من باب “المتسلفة مردودة” ومن باب رفع التهمة فقد ذكرت الوثيقة اسمه إلى جانب اسم كمال.
الاختلاف بين حمّة والوطد هو اختلاف في النشأة وفي هذا السياق تذكر بعض المصادر وقائع عرفتها الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي (سنة 77) وتحديدا في فترة ظهور الوطد المنحدرين من تجربة الشعلة وما عرفوه من مدّ على حساب التيار الطلابي المنحدر من تجربة آفاق والعامل التونسي (الهياكل النقابية المؤقتة وتعبيراتها النقابيّة الطلابيّة)،
في هذا السياق، عُلّق نصٌّ في في الساحة الطلابية سنة 77 يعتبر الوطد صناعة وزارة الداخلية ومحمد الصياح لضرب الحركة الطلابية ومنع إنجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة (توجد شهادات على هذا). ولكن ظهور الإسلاميين اللافت حوّل التهمة باتجاههم، وقد كانت أوّل راية علنية لهم تحمل عبارة “طلبة مصلون” (يقال إنّ حاملها كان زياد كريشان)، وكانت تعكس كثيرا من سذاجة كل بداية قبل أن ينخرطوا في الصراع النقابي من داخل تجربة الاتحاد العام لطلبة تونس وكان شعارهم النقابي السياسي الاول: لا للتدجيل الهياكل للتمثيل. وكان هذا قبل السنة الجامعيّة (79 ـ 80) وظهور أطروحة االتأسيسي.
في سياق بروز التيار الإسلامي في الحركة الطلابية تم تحويل صفة “صنيعة النظام” ودور محمد الصياح (مطلق عبارة الخوانجيّة) من الوطد إلى التيار الإسلامي الناشئ في الحركة الطلابية، ومنذ ذلك اليوم شاعت هذه السردية المُحَوَّلة واستقرّت حتى في الأعمال البحثية والأكاديمية.
اليوم الوطد، يسكتون عن حمة، رغم ورود اسمه في اغتيال شكري. وكان المفروض أن يحوّلوا إصبع الاتهام، وهم الملحّون على معرفة “شكون قتل شكري”؟. ولكنهم، مثل حمة، لا يملكون أمرهم. هم مخلب قط وظيفي…
فالوطد كان “بوليسا سياسيا عضويا” (ارتباطه بنظام بن علي) وبعد الثورة صار “بوليسا سياسيا تقليديا” (هروب بن علي، فالوطد كمثقف الإقطاع في مرحلة رأسمالية)، وحمة رهينة عند كمال ونبيل.
هجوم هيئة الدفاع على مكتب وكيل الجمهورية
واضح أنّ هجوم هيئة الدفاع على مقر وكيل الجمهورية يأتي مكمّلاً للّوبيات التي وراء الزبيدي وسعيها المحموم بكل الوسائل، ومنها الطعون على مشروعيتها، إلى إرباك المسار الانتخابي أو الانقلاب عليه، بعد هزيمتها المدوية، ومن ناحية أخرى الرغبة في التأثير على شروط الانتخابات التشريعيّة بمواصلة هرسلة حركة النهضة رغم خسارتها في الاستحقاق الرئاسي التي نعتبرها خسارة لمنظومة المجال السياسي الرسمي حكماً ومعارضةً… وهي غير السيستام، فخسارته كانت في انقسامه وخوفه من العجز البنيوي عن الاستمرار…
ولكن النهضة حتى بهذه الصفة (=المنهزمة) فهي غير مقبولة ليس لمرجعيتها الإسلامية، وليس لضعفٍ في مدنيتها أو عجز ٍ منها عما “نجحوا هم في تمثّله من قيم حداثية آسرة”، وإنّما لسبب وحيد هو كونها مازالت تمثل أهم شروط تأسيس الديمقراطيّة رغم ما تلقّته منهم “من قدّام” من صفعات وما كان منهم من شيطنة وهي تجاورهم في الحكم، وما كابدته من من جرّاء ذلك من خسارات أخلاقية وسياسية، وما تلقّته “من تالي” من “أصدقائها السابقين”، وإن كان لبعض ما تلقته منهم ما يبرره في سلوكها السياسي.
يواصلون استهدافها ربما لحدسهم الجلدي بأنها مازالت تمثّل أهم شرط في بناء الديمقراطية واستقرارها، وإلاّ ماذا يعني استهداف حزب سياسي مهزوم ويعرف تصدّعا داخليّا جادّا إلا إذا كانوا لا يدركون أن ضعفه مرتبط بالتقدم في بناء الديمقراطية.
ولو أدركت المنظومة وأدواتها العضوية والوظيفية ذلك لكفّت عن استهدافه وإضعافه، لأنّ مشكلتها ليس مع النهضة في ذاتها وإنما مع كلّ ما يمكن أن يساهم في تأسيس الديمقراطيّة وما تمثّله الديمقراطية من خطر على المصالح..لكننا في لوجسيال بورقيبيّ موروث عشّش في الأذهان من الصعب التخلّص منها، وإن كانت عبير الأشجع والأصدق في التعبير عنه.
بلوغ الإسلام السياسي أعلى مراحله لا يعني استهدافا مادّيا لمكوّناته وإنّما المقصود حلولها في هوية جديدة مواطنية مرتبطة باستواء الديمقراطية التمثيلية واستقرارها. وهي ديمقراطية قد تكون سبيلا إلى ديمقراطيّة تشاركيّة مأمولة.
لذلك نرى في “الإسلام الديمقراطي”، وما قد تعرفه النهضة من انقسام، خطوات حثيثة نحو أعلى مراحل الظاهرة : العدالة والتنمية. مرحلة تنتهي عندها المهمة التاريخية لهذه الظاهرة الأصيلة، وكان المفروض أن تنجز هذه المهمة التاريخية قوى لا تفتأ تذكّر بمرجعيتها “الحداثية”، ولكن مسار الانتقال الديمقراطي الذي نعيش يدفع إلى اعتبار الإسلام السياسي في بلادنا والمجال العربي هو ” حداثتنا السياسية الحقيقية”. هذه نتيجة مهمّة لا يتوقّف عندها كثيرا، ولو أتت من العدوة المتوسء الشماليّة لسلّم بها العبيد قبل الأحرار.
ثأر الهامش، ملاحظات أوليّة
نتائج الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى، والتي اعتبرناها “ثأرا للهامش” بمستوويه الأخلاقي (سعيد) والاجتماعي (القروي)، وهو صورة من انقسام مضاعف يعرفه البلد أساسي لبناء صورة كاملة عن مشهدنا السياسي بمجاليه السياسيين الرسمي والهامشي.
والنتائج مؤشرٌ على بداية استواء الديمقراطية في المجال السياسي الرسمي، ومن المجال السياسي في الهامش في التفكير في “الديمقراطية المباشرة”، رغم قفزه على أمرين : مرحلة الديمقراطية التشاركية التضامنية ونموذجها اليتيم والمحاصر في جمنة، وعلى السياق الذي تمت باتجاهه القفزة وهو مؤسسة رئاسة الجمهورية. وهذا ما يحتاج إلى نقاش معمّق يرفض الاستسلام إلى ما تخلّفه فينا “مثالية الأفكار” من ارتياح مغشوش.
الزبيدي أحد وجوه المنظومة المنهزمة في المجال السياسي الرسمي مجال الديمقراطية التمثيلية، فالمنظومة رغم محاولتها (أو إعلانها) دمقرطة البورقيبية، بعد الاعتراف بالثورة، تبقى “وعودَ استبداد” فقدت أغلب شروط استعادة الاستبداد، ولذلك هي لم تنجح في الدمقرطة ولن تنجح في الاستعادة، وتأرجحت بينهما، وهو مؤشر اندحار حاسم قد يتأكد.
أما حمة والوطد فهما من بقايا أدوات لم يعد يُعتد بها، حتى فرنسا لا تحتاجها فقد قال الكاباش (Jean-Pierre El Kabbach) ما يجب قوله، ولكنها أدوات لا تستطيع ألاّ تعرض نفسها. سياق لم يبق لها فيه إلا قشّة لا تمنع غرقا، ولكنها قد تكون قاصمة الظهر… لذلك اعتبرنا حديثنا هذا من آخر الحديث…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock