نحن شعب يحبّ النّكد…
صالح التيزاوي
ذات يوم في بداية الثّمانينات وللرّدّ على خنق النّطام البورقيبي للحرّيّات بما في ذلك حرّيّة العمل النّقابي، اتّخذت نقابة التّعليم الثّانوى قرارا بفرض يوم الحقّ النّقابي بجمبع معاهد البلاد، أنهينا الحصّة الرّابعة من الفترة الصّباحيّة بالمعهد الثّانوى نهج باستور بمدينة ماطر والتحقنا بقاعة الأساتذة فوجدنا الأمن داخل القاعة ينتظرنا ليعلمنا أنّ الإجتماعات النّقابيّة محظورة، وعلمنا أنّ الإجراء التّعسّفي طال كلّ المؤسّسات التّربويّة.. فلماذا اليوم ومع وفرة الحرّيّة التي ضحّت من أجل إدراكها أجيال وراء أجيال نجتهد لوأدها وتشويهها ويصرّ البعض على ربطها بالفوضى لمقايضتها بالأمن، وآخرون يستفيدون منها، ويهدّدون بمصادرتها في حال وصولهم إلى الحكم. فهل نحن شعب يحبّ النّكد؟!
كنّا قبل ثورة الحرّيّة والكرامة أمام مترشّح واحد للرّئاسة، لا ينافسه أحد على منصب الرّئاسة ولا ينازعه فيه أحد على رأي السّلفيّة الجاميّة والمدخليّة صنائع عربان الخليج. ومن الغريب أنّ الإنتخابات كانت تتمّ في مواعيدها وتهدر عليها الأموال، مع أنّ المترشّح واحد لا شريك له، فكأنّه خلق ليحكم مدى الحياة.. ولم تكن تلك الإنتخابات تحظى باهتمام الغالبيّة العظمى لكونها كانت صوريّة ونتائجها معروفة سلفا… وكنّا ننظر إلى الدّول الغربيّة وهي تتداول السّلطة سلميّا بحزن وأسى على ما نحن فيه، وكان منتهى حلمنا اجتماع نقابيّ بدقائق معدودات بعيدا عن قبضة الأمن. وأمّا الحرّيّات السّياسيّة والتّعدّديّة الحزبيّة والتّداول السّلمي على السّلطة فكان الحديث فيها ضربا من الوهم والخيال. فلماذا وقد أصبحت واقعا نبخسها حقّها ونفتّش في مساوئها ونشكّك في جدواها. فهل أصبحت الحرّيّة مملّة؟ أم أنّنا شعب يهوى النّكد؟
كان مجرّد التْفكير في منافسة “الزّعيم” على منصبه، يعتبر خيانة للوطن، وجرما يستوجب التّنكيل، لأنّ كرسيّ الرّئاسة ليس في متناول أبناء الشّعب مهما كان وعيهم وكفاءتهم، وأنّى لأحد أن يقترب من كرسيّ الرّئاسة في حياة المستبدّ. ألم يقسم قائد الإنقلاب في مصر على أن لا يترك أحدا يقترب من كرسيّ الرّئاسة مادام حيّا!! فها نحن وبفضل ثورة شعبنا، أنهينا خرافة الرّئيس المقدّس والكرسيّ المقدّس حتّى صار ينافس عليه من يعتبر “المادّة الشّخمة” ثروة طبيعيّة.. وها نحن أمام تخمة من المترشّحين، من أطياف متعدّدة إلى حدّ التّناقض، يتناظرون أمام الشّعب ليقيّمهم، بعد أن كان الخوض في سياسة الحاكم من المحظورات. ورغم ذلك نترك جوهر الحدث وندخل في جدل وعراك حول الشّكليات.. لباس المترشّح، طريقته في الكلام، درجة توتّره، أحقّيته بالمنصب قبل أن يقول الشّعب كلمته. لقد حرمنا الإستبداد لمدّة ستّين عاما من رؤية هكذا مشهد جميل كشأن الدّول والشّعوب المتحضّرة، ولمّا صار حلم أجيال بأكملها حقيقة وواقعا أصبحنا نعمل على تلويثه وترذيله.. ونتّخذه موضوعا للسّخرية. لمصلحة من نفعل هذا؟
نحن شعب يحبّ النّكد، نحوّل عرسا انتخابيّا إلى مناحة وحروب كلامية وتخوين ومشاحنات بين المترشّحين وأنصارهم على تفاصيل وجزئيّات، تفسد علينا جمال المشهد وجمال اللّحظة.. لننشغل بمساوئ المترشّحين. وننسى في اللّحظة الحاسمة أنّ مساوئ الدّيمقراطيّة أفضل من محاسن الإستبداد إن كانت فيه محاسن.. في أجواء الحرّيّة، تجتهد الشّعوب لتخرج أحسن ما فيها، فتفيض حياتهم إبداعا وجمالا، ونحن نجتهد لنخرج أسوأ ما فينا سبّا وتجربحا وتنكيلا بالخصوم وازدراء للقانون وللعمل وتعطيلا للإنتاج وإتلافا لثرواتنا، ثمّ نقف على أبواب صناديق النّهب
العالميّة نستجدي القروض المجحفة والمساعدات الدّوليّة. فهل بعد هذا النّكد من نكد؟
نحن شعب يحبّ النّكد، نقول بأنّ السّيادة للشّعب وكل منّا ينصّب نفسه وصيّا على الشّعب لا يريد أن يقنعه بمرشّحه بل يريد فرضه فرضا على طريقة فرعون “لا أريكم إلّا ما أرى”.. نلعن الإستبداد جهرا ونعبده سرّا.. نحبّ الحرّيّة لأنفسنا ونمنعها على غيرنا، نطلب من الآخر المعاملة المحترمة ونستكثرها عليه.. لا نستمع إلى كلّ المترشّحين لنعرف مواطن الخلل والقصور في حياتنا، ولكن لنبحث في نقائصهم ونحسبها نقاطا لمرشّحنا، ننشغل بنجاح مرشّح ولن يشغلنا تخلّف وطن، لم تعد تهمّنا الأفكار.. بقدر ما يهمّنا الوثن…
نحن شعب يحبّ النّكد، لا نعطي قيمة لما نحن فيه من حرّيّة، لم يكن من السّهل إدراكها لولا نضالات أجيال وراء أجيال، توّجتها ثورة الحرّيّة والكرامة، وإنّ شعوبا عربيّة، كثيرة مازالت ترزح تحت حكم العسكر وتحت البراميل المتفجّرة تتطلّع إلى عشر ما ننعم به من حرّيّة. فهل بات جلد الذّات هوايتنا المفضّلة؟ ننفق آلاف الملايين من العملة للتّرويج لصورة تونس في الخارج وجلب الإستثمار ونخرّب حدثا سياسيّا غير مألوف في بلاد العرب، يغنينا عن نفقات، التّنمية والتّشغيل أولى بهما، إرضاء لغرائزنا واستجابة لمطالب صنّاع الإستبداد ورعاته… فهل في جيناتنا عشق النّكد؟