مقالات

الفرائض الغائبة في حملة الرئاسيات التونسية !

بشير العبيدي

#رقصة_اليراع
لستُ من متابعيّ الإعلام التونسيّ المنتظمين، غير أنّ الفضول دعاني لمتابعة الحدث التاريخيّ المتمثّل في وجود ما يكاد يمثّل كامل ألوان الطيف الفكري والاجتماعي والسياسيّ في الساحة التونسية والعربيّة، يعرض بضاعته أمام جمهور النّاخبين، في انتظار حكم صندوق انتخابي لطالما ناضلت الأجيال تلو الأجيال من أجل الوصول إليه، فتحقق في تونس بعد ويلات وتضحيات وكلفة بشرية وحضارية للاستبداد فاقت جميع التوقعات.
الآن، ها نحن نجلس أمام شاشاتنا نشاهد الموقف والموقف المقابل. مواقف يعبّر عنها أصحابها بكلّ حرّية، لا يمنعهم شيء عن التعبير، اللهم الحسابات الانتخابية الدقيقة لمن خلفهم يدفعون ثمن الحملات، أو الرسائل المحدّدة الموجّهة لهذا الصنف أو ذاك من الناخبين من أبناء المجتمع.
ولأنّ أقرب صورة للصدق لدى الإنسان هي تلك التي يكون فيها حرًّا من قيود الخوف ومطمئنّا من سطوة القهر والإجبار، فإنني أزعم أن المشهد مناسب لكي نرى نقصنا الجماعي في التفكير والأداء وهو يتجلّى بوضوح من خلال طيف المترشّحين لأعلى منصب في الدولة التونسية.
ولقد سجّلت ثلاث ملاحظات أعتبرها تفضح قصورنا الجماعي، لا في تونس فقط، بل عموم المجتمعات العربية.
أوّلا : لاحظتُ خللا فكريّا لافتًا أهم ملامحه غياب مخيف للبعد الثقافي في الحملات
ما الذي يصنع سلوك الإنسان ومواقفه وبلائه كلّه في الأصل؟ أليس هو نمط التفكير، أي الفكر الذي يصدر عنه السلوك والموقف ويحكم أداء الإنسان؟ ومن أي نطفة أمشاج يتشكّل التفكير؟ أليس يتشكّل هذا النمط من التفكير في رحم الثقافة المحيطة والبيئة المحلّيّة؟ وأين يلتقط الإنسان ثقافته المحلّية؟ أليس في محاضن العائلة والمدرسة والشارع، والمؤسسات الاجتماعية والرسمية التي تعيد إنتاج الذات الجماعية عبر الوليّ والمعلّم والأستاذ والجامعيّ والإمام والمرشد وكبير الحيّ والمثقف والإعلامي والأديب والشاعر والفنان وكلّ ألوان الطيف، أليس كلّ هؤلاء هم الذين يساهمون في صقل نظرة الإنسان للحياة، ويحدّدون طريقة تعامله مع غيره ويصنعون في داخله الرموز الاجتماعية والثقافية والقيمية وينشّؤونه عليها؟ أليس كل ذلك هو الفكر الجماعي والثقافة الجماعية والقيم المشتركة التي يتأسس عليها كلّ شيء؟
إذا كان القارئ المتفهّم يجيبني بقوله “بلى”، فربّما يوافقني كذلك في الحكم، أنّ مناظرات المترشّحين للرئاسة التونسية يخلو من برامجهم ومداخلاتهم المختلفة وكل تعبيراتهم أدنى اهتمام بإصلاح الثقافة وإصلاح الفكر الذي هو عصب السلوك، ولا يستقيم الطلّ والعود أعوج! هنالك سباق محموم على وعود زائفة لا تستطيع الدولة أبدا تنفيذها من نوع التنازل عن ألوف المليارات من الديون، ووعود تزيّن للشباب تسهيل الوصول للمخدرات، ووعود باستثمارات مليارية هنا وهناك، بينما توجد أمور خطيرة جدا تستوجب إصلاح التفكير أولا منها : ما سبب عزوف الشباب عن بلادهم وهروبهم منها والبحث عن التأشيرة الأجنبية حتى بإيجار أعمارهم الشبابية الغضة للعجائز الأجنبيات! ما سبب هروب الكوادر والأطباء والنبهاء والنبغاء ؟! أليس يوجد شيء في بلداننا يجعلهم يكرهون البقاء فيها؟ أين تشكلت فكرتنا عن أنفسنا؟! ينبغي البحث والتقصي في الفكر والثقافة وبذل الجهد لمعرفة الداء ووصف الدواء. وإلا ما فائدة أن حقّقنا الحرّية وأطلقنا العنان للأهواء والفوضى وضياع البوصلة الفكرية والثقافية والقيمية للناس؟! أتراهم سينصلحون بمجرد زيادة الدخل وشيوع الرفاهية؟ فالانخرام في الفكر والرزية في الثقافة لا ينفع معها فقر ولا غنى، ولنا في الشعوب التي تسكن فوق بحار من الثروات أكبر دليل، فقد كانت الأموال التي جنتها وبالا عليها، لأنها لا تملك فكرا تصنع به فارقا بينها وبين الشعوب الأخرى التي حققت اختراقا حضاريا مشهودا.
ثانيا: لاحظتُ غيابا مخيفا لثقافة العمل الجماعي
وهذه فرع عن نمط التفكير أيضا، لكن ظهورها يوشك أن يصيب مبدأ الحرية والكرامة في مقتل. فعدد المترشّحين يعبّر عن هذه الحرّية من وجه، لكنّه من وجه آخر يفضح غياب العمل الجماعي والذكاء الجماعي التشاركي الذي له بركات عظيمة على الأداء في الشعوب.
نعم من حقّ أيّ كان أن يترشّح. لكن ما العمل إذا كانت هذه الترشّحات ليست إلا تجلّيات عجزنا عن تقديم مرشّح واحد إن كانت الفكرة قريبة والبرنامج مشابه؟ لماذا كلّ هذه الأنانيات وهذه التورّمات الشخصية والنفج في تقديم الذات الشخصية على حساب الفكرة والبرنامج المشترك؟ أليست هذه الأنانيات هي التي ستجعل أعداء الثورة ينقضون عليها ويواصلون تعطيل مسيرتها، لا لشيء إلا لأن أنانية أنصار الثورة تورّمت أكبر من الثورة ذاتها؟! ماذا يقول غدا هؤلاء الذين ضحوا وأفنوا أعمارهم من أجل الحرية، حين يصل إلى كرسيّ الحكم صعلوك تحرّكه المخابرات الأجنبية والمصالح الداخلية، فيقبع في قصر قرطاج ويؤخر البلد خمس سنوات أخرى بأوامر من (المسؤول الكبير)، مثلا؟ أليس الذين اتفقوا في نصرة الثورة ورفضوا التعاون والذين انسحبوا وجلسوا على الربى يبكون الذكريات لهم مسؤولية في مصير كهذا لا يتمناه المرء لبلده؟
ثالثا : لاحظت فسادا إعلاميا مقيتا
وأوّل مظهر لفساد الإعلام فساد ألسنة الإعلاميين، فكثيرون الْيَوْم في تونس يفرضون لغة عربية هجينة معجونة بجمل أجنبية من دون موجب لذلك، ويحرصون أشد الحرص على التزام تلك اللغة، التي لا يفهمها عامة الشعب ولكنهم يصرّون للإساء للغة العربية إساءة عظيمة بخلطهم العامية باللغة الأجنبية، وتراهم يحرصون أشد الحرص على سلامة لسانهم باللغة الأجنبية ولا يهمّهم كيف تكلّموا أو تكلّم ضيوفهم أمامهم! إنني أعيش في البلاد الأوروبية منذ ثلاثين سنة، وأنظر بعين الإعجاب للصحفيين الفرنسيين والألمان والانقليز والإيطاليين والإسبان وغيرهم، لا يسمحون أبدا بالاعتداء على لسانهم الفصيح، وإن تكلم ضيف بكلمة أجنبية، قاطعوه وأمروه بترجمتها! اللغة سيادة ومن لا لغة له لا سيادة له ! فكيف يتكلم رؤساء حكومة تونس الثورة ولا يحسنون وضع الفاعل مع المفعول، ولا يحسنون جملة رتيبة تعبر عن فكرة واضحة بلغة البلاد المنصوص عليها في الدستور، ثم يتشدقون بكلمة الاستقلال ! إن أكبر تجليات الاستقلال عند البشر هو احترام اللسان المشترك وإجبار الجميع أن يحترم اللغة المشتركة !
ولكن الإعلام الذي ابتليت به تونس هو إعلام على صورة ما ظهر على الشاشات : إعلاميون جالسون جلوس الأساتذة، والمترشحون هم الوقوف أمامهم، في مشهد معبّر عن مدى الاختلال في العلاقة بين أوليغارشيا إعلامية متنكبة متحكمة، تصنع الأفاعيل الجهنمية من أجل فرض وجهة نظرها على شعب طيب مسالم، دون رحمة ولا رأفة، تفرض عليه لغتها، وتجبره على رؤية فحشها، ثم تحاسبه فيما بعد حين يدافع عن نفسه ضدّ شراسة فعلها القبيح.
ينبغي تثبيت حالة وعي جديدة. وكما قال المترشح الشاب سيف الدين مخلوف : نحن حالة وعي. نعم ينبغي أن نكون حالة وعي وأن نقول الأمور كما هي. إن استكمال الثورة لن يتم دون تصحيح هذا الوضع الإعلامي التونسي البائس، شكلا ومضمونا.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
✍🏽 #بشير_العبيدي | محرّم 1441 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock