الإسلاميون والحريّات الفرديّة : من الدّعوة الى الدّولة
سليم حكيمي
بين دين يخُتزل جوهره في الاستقامة، يضبط السلوك ويعد جزءا من الثقافة التي تشكل الاجتماع الإنساني، وبين واقع اجتماعي متفلّت، يقف الإسلاميون أمام تحديات وتطورات اجتماعية حديثة أثّرت في السلوك الفردي للناس وحوّلت رؤيتهم للوجود والحياة. فكثيرا ما استطاع استبداد الدولة الحديثة أن ينجح في توسعة الحريات الخاصة على حساب الحريات العامة السياسية ليجعل الفرد يشعر انه حر حين يمارس كل رغباته وهو جوهر الفخ. أرادت الأنظمة تصوير الإسلاميين تهديدا لحريات الناس ونقيضا للدولة والمجتمع في آن، في خطة لمقتل السياسة والدين معا. في الوقت الذي أراد فيه الإسلام الحركي المعني بالشأن العام، التعبير عن كامل الدولة والمجتمع. أثناء المعركة، تم العسف حتى بمكتسباتهم الدّعوية والإطاحة بالنّماذج التي يمكن أن تشكل قدوات في أذهان الناس. ورغم أن النصر كان للدولة في تشكيل الوعي الدّيني والسلوكي بسبب امتلاكها كل الأجهزة الإيديولوجية من إذاعة وتلفزة وإعلام مكتوب، قدّم الإسلاميين للناس خصوما للحريّة وصَوّر حق الله متناقضا مع حق الفرد. نجح الإسلاميون -إلى حد ما- في كسر الطوق وتسفيه ادعاءات الدولة، ولكن ظل الموضوع مجالا للتوتر والمغالاة بين الطرف الإسلامي والعلماني الذي أصرّ على تصوير الإسلام قيدا أمام الحياة ومُتعها، ومجرد نصّ جبر على الالتزام بأحكام فقهية تجاوزها العصر، مصدرها دين نزل عندما كان الناس يركبون الجمال، كانت جديدة في عصرها ولكنها لا تستجيب لتعقيدات الواقع المركب.
المرأة وحرية العلاقات بين الجنسين مربط الفرس في موضوع الحريات الفردية،. وكثيرا ما استند الادّعاء على مدونة دينية صارمة ونهج دول حقيقي في تقييد حريات الناس من سلوك جماعات دينية متشددة ومن تجارب دول وصل فيها إسلاميون إلى السلطة مثل أفغانستان وباكستان والسعودية وإيران مستعينين بشرطة الأخلاق لفرض رقابة على نمط عيش الناس. ولم ينتبه العلمانيون إلى الّجبر القسري الآخر من الحكومات التي فرضت علمانية قهرية مبدئية ردت على شطط بغلوّ، منتجة انحرافات اجتماعية خطرة وندوبا معنوية كنزع الحجاب بالقوة وفرض السفور والتعري وسلعنة المراة شرطا للعمل في مؤسسات الدولة. إلا أن الإسلام الحركي عموما استطاع أن يوفر الأسس النظرية للتماهي مع الواقع وعدم الاصطدام بالمجتمع بل اعتصم به مرات عديدة من بطش السلطة. و للرد على الإحراج النظري، انطلقت دعوات التجديد الفقهي محاولة التكيف مع الواقع الاجتماعي باحثة عن الدور الحقيقي للدين في المجتمع وتوضيح الحد الفاصل بين أن يكون للدين منظورا شاملا وبين أن يكون منظومة شاملة تحدد جزئيات الحياة في أحكام مطلقة. محاولة أن تجد طريقا وسطا بين “الواقع الذي يصوغ الوعي” بالتعبير الماركسي، وبين نص يؤطّر الوعي، بين الضوابط والقيود، بين مطلق الحرية وقيد القانون في طرح يخاطب الإنسان بكل مكوناته وتركيبته الإنسانية وإظهار أن للدين مشكلة -فقط- مع انحرافات بشرية وليس مع حقيقة المجتمع المسلم بطبعه والمحافظ في جوهره.
في المقابل يطرح طيف شبابي شعبي واسع السؤال التالي: ما جدوى وجود رغبات إن لم نكن لنستسلم لها ؟
تلك فلسفة العيش والحرية عند مجتمع أعماق وجيل صاعد مُعولم يحوله المنع من التلذذ بالحياة إلى عدواني، متأثرا بنمط الحياة المتعة التي توهجت في الغرب في أمريكا أولا ثم في فرنسا منذ الثمانينات لتعبر عن “أنوثة غير معقدة” وجنس داعر، قررت القطيعة مع صورة تقليدية للفتاة التي تنتظر فقط فارس الأحلام بل تقتحم عوالم اللذة. لنجد أنفسنا في عصر “الحداثة السائلة” قدمت فيه قناة فرانس 24 برنامجا بعنوان “العذرية غشاء الشرف أم غشاوة التقاليد” ممثّلا ذروة التنظير للتحرّر الجنسي العربي.
الوعي بالمرحلة السياسية
اول مراحل الوعي هو عدم الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات ومقاصد السياسة. ويعني ذلك الحفاظ على الديمقراطية وحمايتها من عودة الاستبداد والشعوب الى زريبة الطاعة. يواجه الإسلاميون حين انتقالهم إلى المشاركة في الحكم: علمانية النخب، التي لم تعن يوما سوى العداء للإسلاميين والإسلام، وتركة الاستبداد في مفهوم الحرية، وعصر الحداثة السائلة المتجاهل لكل ما هو قيمي ومعياري والتخلّف التنموي الفادح. وهو ما استوجب فهم المرحلة ومعنى الحاكم عند الناس. في هذا الصدد، تبقى مقولة المفكر التجديدي محمد الغزالي في أثره “ظلام من الغرب” ص 178 ايقونة في الفهم حين قال “ضبط السلوك العام في حدود الشّرف يتطلب منا حسن الإشراف على أحوال مجتمع حتى لا تتحول الشر إلى تيارات عنيفة”. وكذلك ابن الأزرق “صاحب مؤلف بدائع السلك في طبائع الملك” من ابرز ملامح الدهاء السياسي التغافل. فالسياسي الحاذق هو الذي يهتدي بقوله تعالى “عرّف بعضه وعرَض عن بعض” ويأخذ بقول العرب “الشرف التغافل وما استقصى كريم حقه قط” وقول المرادي في كتاب السياسة: “إن السياسي الناجح هو الذي يتسم بالدهاء فيسعى إلى تحقيق أهدافه بألطف الوجوه”. كما ذكر ابن خلدون في المقدمة ص 189 في فصل “في ان إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر” متحدثا عن ضرورة التغاضي حين الحكم والإعراض عن الاشتغال بحياة الناس خاصة: “وأكثر ما يوجد الرِّفق في الغفل والمتغفّل… واشترط الشارع في الحاكم قلّة الذكاء ومأخذه من قصة زياد ابن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق وقال له: “لمَ عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أمْ لخيانة؟” فقال عمر: “لم أعزلك لواحدة منها ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس”. فاخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس مثل زياد بن ابي سفيان وعمر بن العاص لما يتبع ذلك من التعسّف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه”. ليتبن في النهاية أن وظيفة الحاكم الأساسية هي تحسين معاش الناس “وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته لهم” على حد قول ابن خلدون، وليس تقييد حرياتهم وتغيير مألوفهم فليس هذا من شان عمل الدولة. فهم الإسلاميون انهم لم يعودوا معنيين بمن يدخل الجنة ومن يدخل النار، كما في بداية تشكل وعي الجماعات الاسلامية الاولى. وان التخلف اكبر كبيرة ومنكر اجتماعي يجب أن يواجهه الحاكم وان الجوع يغير خرائط الانفس، وان الدعوة ستعود للانطلاق من حسن الأداء في الدولة بخدمة الناس والأيادي البيضاء والحفاظ على المال العام، وهو جوهر وجودهم السياسي والقيمي. قد وضح عبد الاله بن كيران رئيس وزراء المغرب والمنتمي الى “حزب العدالة والتنمية المغربي” الاسلامي التوجه المسالة حين سالته صحفية على القناة الاولى المغربية عن “انتم تقيّدون حريات الناس. ماذا ستفعلون مع شاربي الخمور ومسالة العلاقة بين الجنسين… وحكم المرتد..” فرد: هذه امور كانت مجال اهتمامنا حين كنا صغارا زمن النشاة الاولى في الدعوة. مهمتي الآن ان ابحث عن السّكن للمشرّد والدواء للمريض والعمل للعاطل هذه مهمة الحكم”.
ولفهم استحالة يوتوبيا الالتزام الاجتماعي بالتدين، يمكن ان نقارن بالتجربة الفيزيائية التالية: فيمكن أن تذيب نسبة من الملح في نسبة محددة من الماء، ويمكنك أن نذيب كمية أخرى منه إذا ما رفعنا درجة حرارة الماء، ثم تتوقف قدرته على إذابة الملح مهما ارتفعت الحرارة. كذلك المجتمعات تستطيع أن تصهر جزءا منها في بوتقة التدين، الذي هو مرحلة عليا من الالتزام المدني، ولكن يبقى جزء عصيّ على الانصهار في دائرة التدين وقد لا يشاركك ثقافتك ورؤيتك إلى الإنسان والطبيعة والكون وطرق الحياة ووظيفة الدين في المجتمع، ولكن يشاركك الالتزام بالقانون والمواطنة والوطنية. فمن يحلم بصهر كامل الناس في بوتقة الالتزام هو مخطئ، ومثله كمثل من يحلم بالقدرة على تذويب كل كميات الملح في الماء، وسيبقى جزء من الناس على هامش التديّن حتى لو كان فيك النبي والوليّ. وكل التجارب التي منعت الحريات الفردية أثبتت فشلها. وممارسة ما هو منكر شرعا يدخل في إطار محاسبة الله وأما الدولة فمجال المحاسبة لا يعنيها إلا إذا كان فيه المساس بالنظام العام حين ممارسة الحرية. روح الإسلام في منح الحق في الاختيار في تصرفاتك بمنطق القرآني “إنا هديناه النّجدين” وما سيحاسبك على ذلك هو الله وليس غيره. ولا فرق بين اتهام النخب العلمانية بتنصيب نفسها وسيطا بين الغرب والشعب، وبين أن ينتصب طرف وسيطا بين الله والناس.
العربي 21