مقالات

هل توجد "عائلة ديمقراطية" في تونس ؟

عادل بن عبد الله

رغم كثرة المقالات والدراسات الموضوعة في الثورة التونسية، ورغم جدية الكثير من تلك الكتابات وعمقها، فإنها قد أهملت سؤالا محوريا، وهو سؤال لم يُوفّ حقه من التفكير الفردي ومن السجال العمومي، ويمكن صياغته على النحو التالي: لماذا لم يكن التناقض الرئيسي بعد الثورة التونسية بين القوى التي حررتها الثورة وبين أولئك الذين قامت ضدهم؟ أي لماذا انتقل محور الصراع من التقابل بين منظومة الاستبداد وورثتها من جهة أولى، وبين باقي القوى التي تضررت من حكم المخلوع من جهة ثانية، إلى صراع بين “العائلة الديمقراطية” (بما فيها ورثة المخلوع وصنائعه) وبين النهضة أو حركات الإسلام السياسي؟
لا شك في أن الإجابة على هذا السؤال ستساعدنا في فهم مسار الثورة التونسية (بنجاحاته الجزئية وإخفاقاته)، كما سيساعدنا أيضا على فهم المشهد السياسي التونسي بما فيه من عودة مظفرة لورثة المخلوع وللنواة الجهوية الصلبة لمنظومة الحكم، التي هيمنت على المجال العام في عهدي بورقيبة والمخلوع. ونحن نذهب إلى تعدد العوامل التي مهّدت لأن يكون الحقل السياسي التونسي في صورته الحالية. فبالإضافة إلى منطق “استمرارية الدولة” وإلى فشل قانون العزل السياسي، وتغلغل “الأزلام” في جميع مفاصل الدولة والمجتمع المدني، نجد أن بعض العوامل السياقية (كتغوّل السلفية وتهديدهم للمشترك الوطني، وكذلك تدخل العديد من القوى الإقليمية لضرب مسار الانتقال الديمقراطي ومنع انبثاق حقل سياسي “طبيعي”)، قد ساهمت كلها في حرف الصراع عن مداراته “المتوقعة” أو المنطقية؛ إلى مدارات أخرى عملت المنظومة القديمة على استثمارها بصورة براغماتية، لا يخفى محصولها عن أي مراقب للشأن التونسي.

وبصرف النظر عن أهمية كل عنصر من العناصر المذكورة أعلاه، وبصرف النظر أيضا عن وجود أو غياب “عامل محدد” بينها، فإن التاريخ السياسي لتونس قد شكّله (وما زال) ذاك التقابل بين”القوى الديمقراطية” وبين حركات الإسلام السياسي، خاصة حركة النهضة. إنه تقابل خطير لأنه أصبح من المسلمات السياسية في تونس، فقليلون هم أولئك الذين تجرأوا على مساءلة هذه المسامة أو التشكيك فيه. وتزداد الغرابة عندما نرى أن حركة النهضة ذاتها قد استبطنت هذا التقابل أو هذه الثنائية اللامتكافئة، بحيث أصبح هاجسها الأهم هو إثبات “تَونسيتها” التي قد تكون قنطرة عبورها إلى الاعتراف بوطنيتها و”ديمقراطيتها” داخليا وخارجيا. ونحن هنا لسنا في وارد التعاطي النهضوي المحكوم بالدونية تجاه المسلمات والادعاءات السياسية المترسبة من الزمن الاستبدادي، ولكننا فقط نريد أن نفكك مسلمة “ديمقراطية” القوى العلمانية واستعلائها على الإسلاميين بها.

رغم كثرة أحزابها وتناقضاتها الداخلية، لا تخرج مكوّنات “العائلة الديمقراطية” في تونس عن الأنساق الإيديولوجية أو السرديات الكبرى للماركسية والقومية والبورقيبية. ومن المنطقي أن يجد ادعاء الديمقراطية (وحصرها في القوى العلمانية دون الإسلاميين) ما يشرّع له في الأصول النظرية لهذه السرديات أو في ممارساتها التاريخية. ولكنّ أدبيات مكونات العائلة الديمقراطية وممارساتها لا تشهد لهذا الإدعاء، بل تنسفه نسفا. فالديمقراطية بمعناها الليبرالي السائد في تونس هي أبعد ما تكون عن “الديمقراطية الشعبية” أو عن دكتاتورية البروليتاريا والحزب الطليعي، وغير ذلك من تقنيات ممارسة السلطة وإدارة الشأن العام في الماركسية.
ولا يمكن للقوميين أن يزايدوا على الماركسيين في هذه النقطة سواء في تأصيلاتهم النظرية أو في ممارساتهم التاريخية. أما البورقيبيون، فلا يوجد في تاريخ زعيمهم ولا في دولته”الجهوية” (المتحولة مجازا في عهديها الدستوري والتجمعي إلى “دولة وطنية” بقوة القمعين الأيديولوجي والبوليسي) ما يجلهم أكثر ديمقراطية من الإسلاميين أو غيرهم. ولذلك فإن “العائلة الديمقراطية” هي في الحقيقة “العائلة العلمانية” التي تريد احتكار صفة الديمقراطية، رغم غياب ما يبرر ذلك نظريا أو تاريخيا.
هل يعني ما تقدم أن الإسلاميين هم الديمقراطيون الحقيقيون؟ بالطبع لا. فكل ما تعنيه الملاحظات الواردة أعلاه هو أن “الديمقراطية” هي أفق أو مشروع جماعي يجب أن يبنيه التونسيون دون إقصاء أو وصاية داخلية أو خارجية، ودون استصحاب صراعات الماضي ومنطق الإلغاء المتبادل ومفردات “الصراع الوجودي”. فلا “القوى الديمقراطية” هي ديمقراطية فعلا (سواء في تاريخها وفي تنظيماتها حيث تطغى الزعاماتية، أو في علاقتها بباقي الشركاء حيث يهيمن الوعي الانقلابي)، ولا النهضة حركة ديمقراطية (حيث مازال وعي “الفرقة الناجية” و”المذهبية” وثقل التراث السلطاني يهيمنون على أغلب القواعد والقيادات رغم ادعاء “الإسلام الديمقراطي”).

ختاما، وفي ظل سياق الانتقال الديمقراطي الهش والمهدد بمافيات الداخل واستخبارات الخارج، على جميع الشركاء في هذا الوطن أن يدركوا أنهم يتعلمون الديمقراطية معا؛ لأنه لا يوجد في تاريخ الجمهورية الأولى إلا القليل الصالح لأن يكون قاعدة لبناء ديمقراطي حقيقي. وهو ما يعني واقعيا أن يعترف العلمانيون بغياب الثقافة الديمقراطية في “كراريسهم الأيديولوجية” وفي ممارساتهم التاريخية قبل ثورات الربيع العربي وبعدها، وأن يعترفوا بأن القبول بالإسلاميين هو شرط ضروري لبناء حقل سياسي طبيعي. وعلى حركة النهضة أيضا أن تدرك أنها لن تؤسس للديمقراطية الحقيقية في “منطق التوافق” مع ورثة المنظومة القديمة، كما أن عليها أن توقن أن تونس لن تربح البلاد شيئا من محاولتها اكتساب الاعتراف بديمقراطيتها ممن لا تتوفر فيه هو ذاته صفة الديمقراطية.
وإذا ما أردنا اختزال المسألة في النقطة الأكثر أهمية، فإننا سنقول إن على القوى العلمانية أن تتجاوز النموذج اللائكي الفرنسي للعلمانية، وأن تحاول إدارة علاقتها بحركات الإسلام السياسي بعيدا عن منطق الصراع الوجودي والنفي المتبادل. كما أن على حركة النهضة أن تؤسس للتوافق المجتمعي في مستواه النظري، وذلك بالاستفادة من التمييز الذي وضعه المرحوم عبد الوهاب المسيري بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، وأن تكون قاطرة لاعتراف الإسلاميين (ولو بعد حين) بالانتظام السياسي الحديث، باعتباره انتظاما “علمانيا” ليس بالضرورة معاديا للمقدسات وللهوية الجماعية.

عربي21

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock