جراية، الرياحي والقروي: قصة العبور المر من السوق إلى السياسة
نور الدين الختروشي
رغم ان تفاصيل لقاء باريس الشهير بين الشيخين بفيت فيي عمومها شحيحة ومازال المهتمون بتساءلون عن طبيعة الصفقة السياسية التي اعادت تشكيل المشهد والمسار، فإن الثابت أن اللقاء كان بحضور السادة سليم الرياحي ونبيل القروي، وهما من رجال الاعمال الذين اختاروا ان ينتقلوا من السوق الى الحيز السياسي مثلهم مثل العديد من “بارونات السوق” الذين انخرطوا في الشأن العام بعد الثورة.
الى هذا الحد تبدو ظاهرة اهتمام فاعلي السوق بالسياسة ولعبة الحكم طبيعية في لحظة وطنية تدشينية لزمن الحرية، حيث انخرط قطاع واسع من التونسيين في الشأن الوطني توزع بين المجتمع المدني ومجتمع الاحزاب.
حلقة السوق من مستثمرين ورجال اعمال وتجار يمثل في الديمقراطيات السوية جديدها وعريقها مكونا بنيويا وأساسيا للمنظومة الديمقراطية، وتبقى فكرة البورجوازية الوطنية كحامل اجتماعي أساسي للنظم الليبرالية فكرة صالحة في فهم عمق التحول من نمط أنظمة الاستبداد الى انظمة الحرية المفتوحة.
ما استرعى اهتمامنا على هامش لقاء باريس ومخرجاته الاستراتجية المتعلقة بعنوان التوافق هو حضور القروي والرياحي بمعنى ان اللقاء وقع تحت عيون السوق وبمبادرة ومتابعة من فاعليه، وهو ما يدفعنا الى التساؤل حول الموقع والدور الوظيفي لعالم الاعمال والمال في ترسيخ الديمقراطية وطنيا ورعايتها.
في الديمقراطيات الغربية وفي مقدمتها الامريكية يمثل فاعل السوق حلقة مركزية في هندسة مجتمع الحكم فلا يمر السياسي الى دوائر صنع القرار دون التحالف المعلن او الخفي مع جماعات الضغط المالية ورجال الاعمال، وقد استقر تقليد اللوبيات المرتبطة دائما ببارونات السوق كجزء طبيعي من العملية الديمقراطية واليات الوصول للسلطة.
في الديمقراطيات العريقة غالبا ما يكتفي فاعل السوق بمناطق الظل بعيدا عن الاضواء، يؤثر في القرار الرسمي من خلال شبكة علاقات ممتدة بين اجهزة الدولة والاعلام ودوائر التأثير في الرأي العام.
يبدو ان برسكوني لم ينصح صديقه نبيل القروي بخطورة الخطوة من حدود السوق الىى مربع الحكم، والتي قد تكون قاتلة، فقد أستسهل نبيل القروي احد أثرياء العشرية الاخيرة من حكم المخلوع هذه الخطوة فقفز في مجاهيل المنافسة المباشرة على الحكم بعد ان دخل دائرة التأثير في صنع القرار السياسي قبل 2014 بتجيير وتسخير قناته الاعلامية لفائدة حزب نداء تونس وزعيمة الباجي قايد السبسي.
حيثيات وتفاصيل قصة انتقال القروي من كوالبس السياسة وغرفها المظلمة الى دائرة الضوء معروفة واكثر ما استرعى الانتباه فيها هو الصفاقة الاخلاقية المباشرة في توظيف موت نجله لتأسيس جمعية خيرية عملت بمتابعة اعلامية مكثفة ويومية طيلة سنتين وتبين بالنهاية انها كانت خطوة القروي الاولى والاساسية لينط الى فضاء المنافسة المباشرة على الحكم بإعلانه الترشح للرئاسيات ثم تكوين حزب سياسي للمنافسة علي البرلمان.
في أمس قريب انتهى سليم الرياحي الي مجرد “مجرم” هارب من العدالة وسبقه ذات يوم من انتقام الشاهد الى السجن شفيق جراية، واليوم تغلق ابواب زنازين السجن على نبيل القروي المتصدر لنوايا التصويت في الرئاسيات القادمة بحسب نتائج سبر الاراء. فهل السياسة لعنة السوق ؟ ام ان للمسألة مقاربة اخرى؟.
اعتقد ان تفكيك ثنائية السلطة والحكم قد تفيدنا في فهم ما حصل لجراية والرياحي وما يحصل اليوم مع نبيل القروي.
في تقديري ان تسليط الضوء على المسافة الخفية بين دائرة السلطة ومربع الحكم قد تكشف جوانب اخرى غير متداولة في تحليل ظاهرة انتقال رجال الاعمال من وراء الستار الى قلب المسرح السياسي.
فظاهرة الدولة العميقة مثلا ليست سوى التعبير المباشر عن حدة الفصل المنهجي بين دائرة “من يحكم” ظاهرا. ومن بيده السلطة وراء الستار ففي حالة الجزائر ومصر شهدنا بوضوح فاضح تدخل الدولة العميقة ممثلة في جنرالات الجيش -اغلبهم من بارونات السوق- وقدرتهم الحاسمة على التحكم في واجهة الحكم وفرض النمط المطلوب للحفاظ علي توازنات توزيع السلطة والثروة.
في تونس الحديثة لم نشهد ظاهرة الدولة العميقة، فبورقيبة حكم وكانت بيده السلطة، وكذلك الامر بالنسبة لبن علي الى حدود بداية الالفية وبروز لوبيات العائلة، ولعل من الاسباب العميقة والمباشرة التي انتهت به هاربا من قرطاج هي تحديدا بروز جيوب مافيوزية من رجال الاعمال الذين استفادوا من قربهم من العائلة الحاكمة وجمعوا ثروات خيالية بارتباطهم بمصالح اصهار الرئيس وعائلته.
كل هذا معروف ومتداول وما يهمنا هنا التأكيد على ان توسع نفوذ بارونات السوق، واختراقهم لاجهزة الدولة الامنية والقضائية وتجييرها لصفقاتهم ومصالحهم كانت من اهم اسباب الانهيار السريع والفجئي للنظام النوفمبوي.
فاعل السوق غالبا ما يكتفي بالكواليس لادارة علاقاته ومصالحه، وقد تتطور شبكة علاقاته للتحول الي لوبي او جماعة ضغط تمارس نأثيرا ناعما على مجتمع الحكم. وتتدخل في تقسيم مربعات القوة والثروة. واستثناءا يخرج الحاكم الخفي من كهوفه الخفية ليتولى بنفسه مهمة ادارة اجهزة الدولة.
تحضرنا في هذا الهامش التحليلي صورة كمال لطيف رجل الاعمال الذي عرف بأتقانه لعبة صنع الحكام في تونس منذ اواخر الثمانينات، ورغم محاولات متكررة بعد الثورة لفتح ملف كمال لطيف، فقد صمد الرجل في موقعه وبقي في دائرة الغموض التي تلف علاقاته ودوره الحاسم في صناعة حكام البلاد.
كمال لطيف يبدو انه فهم جيدا خطورة الخروج من دائرة السلطة المغلقة والمظلمة والخفية ورابط في جحره الذهبي رغم حجم الاتهامات الموجهة له بالفساد والتخابر واختراق اجهزة الدولة.
هذا تحديدا مالم ينتبه اليه نبيل القروي، فقفز بخفة وتسرع من المجال الخفي للسلطة الى مربع المنافسة على واجهة الحكم، ونسي ان معركة المنافسة على الحكم هي بالنهاية حرب شرسة بقدر ما هي قذرة، خاصة عندما تكون في مناخ وطني هائج ومتحول وموبوء بأزمة اخلاقية فاضحة جوهرها حرب الكل ضد الكل بالمباح وغير المباح.
لم تكن نهاية القروي بين القضبان سوى التعبير التراجيدي الحزين عن عدم تقدير مجاهيل خطوة الانتقال من مجتمع “السلطة الخفي” الى واجهة الحكم من دون المرور على تمرين المناورة السياسية وتقنيات العمل السياسي. فالدينار الوسخ قد يصنع اللوبيات وجماعات الضغط في كواليس السلطة، ولكن غالبا ما يطيح بأطفال السوق الذين اسنثروا بتجميع المال وليس بمراكمة الثروة، وهنا الفرق بين المستثمر وفاعل السوق، او ما يسمى برجل الاعمال. فتونس الجديدة تشهد ظاهرة بروز نمط هجين وفاسد ومفسد من رجال الاعمال الذين جمعوا ثرواتهم في سياق استثنائي ضعفت فيه رقابة الدولة وتفككت اوصالها وتوزعت اجهزتها بين ايادي العابثين الجدد من مهربين واباطرة السوق الذين نشطوا في تكوين جيوب مافيوزية متناثرة بين كوالبس الاحزاب والمعنيين باللعبة السياسية.
فوضى التداخل بين السوق والمجال السياسي هي من اطاحت بالقروي ومن قبله الرياحي وجراية، ولاشك ان القائمة سنطول بقدر جشع الطامحين في جمع سلطة المال الى سلطة كرسي الحكم.
نبيل القروي ليس سوى “طفل طائش” من اطفال الجمهورية الثانية ممن تكاثروا على ابواب السلطة السياسية التي بدت مفتوحة للجميع في زمن الحرية وهي في الحقيقة محكمة الاغلاق والطريق اليها ملغوما… وقد انفجر اللغم في وجه القروي والاكيد ستنفجر ألغام اخرى على طول المسافة الفاصلة بين السوق وقصور الحكم، وسنرى اشلاء الضحايا على اطراف الممر الصعب.
الرأي العام