الديموقراطية التمثيلية وأوهام التغيير ..
علي المسعودي
سياسة إغراق السوق هي أبرز ما يميّز المشهد الانتخابي في هذه الأيام. وعلى عكس ما هو متعارف عليه في لغة الاقتصاد فإن سياسة الإغراق الانتخابي ستكون وبالا على السلع السياسية المستوردة أو نصف المصنعة محلّيا… إن الأيادي الخارجية ستكون أكثر سطوة وتمكّنا لو أن المرشحين معدودون، ولكنهم اليوم بالعشرات !.. فالمراهنة في حدّ ذاتها مشكوك في جدواها أمام كثرة الاحتمالات !.
وفي الواقع أستبعد أن يكون ازدحام المرشّحين أمام هيئة الانتخابات حالة مصطنعة، وإن كنت لا أنفي بعضا منها، ولا نيّة الاستثمار في تشوّهاتها. الأقرب أننا أمام حالة “فلتان” صحي يعكس سلامة العملية الديموقراطية أكثر مما يعكس انحرافها. الأمر أشبه بطفل اكتشف للتوّ قدرته على المشي فهو يذرع المساحات في كل الاتجاهات.
عندما تعرض الهيئة العليا السلطة عارية ومتاحة للعموم، وعندما تخبر النخبة والعامة بأن هذا حقهم الطبيعي فخذوه، سينظر الجميع أول الأمر إلى المشهد بكل ريبة ودهشة، ثم سيتدافعون إليه تدافع المحرومين. وسيكون لدينا من المترشحين بقدر ما لدينا من صادقين ومتحزّبين، وانتهازيين ومجانين، ومن لوبيات ومقامات وجهويات.. لنصل إلى وضع تغرق فيه كل الحسابات !.
•••
يختار بعض الباعة المتجوّلين أسواقا أسبوعية صغيرة ومنزوية. ثم يختارون من الساحة الوسط ويستعينون بمضخمات الصوت لعرض سلعهم، ليغرق السوق بأكمله في فنّ دعايتهم، ويبيعون كل بضاعتهم !.
هذه الدعاية ستكون عديمة الجدوى لو أن السوق تمتد إلى ما لا نهاية، أو أن مضخمات الصوت ليست احتكارا عند تاجر مفرد منذ البداية.
هذا هو حال المشهد الانتخابي اليوم: سوق أسبوعية كبيرة، فقد فيها الإعلام دوره المعتاد في توجيه عمليات البيع والشراء !. بل إن الماكينات التقليدية نفسها تفتّتت وتشقّقت، ولم تعد قادرة على استقطاب أكثر من جزء ضئيل من الجمهور.
إن أولى حسنات هذه الطفرة من المترشحين هو تحييد الآلة الإعلامية تقريبا، وتجريدها من سطوتها على مآلات الانتخاب. لم يعد من الممكن تحويل نوايا التصويت بسهولة أمام تنوّع المعروض. وحُرِمت الدعاية الاعلامية من امكانية التعاقد مع مرشّح بعينه والترويج له. فتعدّد الخصوم يربك ماكينة الاعلام ويذهب بكل نجاعتها.
وعليه، فالتصويت للمرشح “البلدي” سيبقى محصورا ببعض سكان الحاضرة، والتصويت الجهوي سيتحوّل بفعل تشتّته إلى تصويت مناطقي، والتصويت للخيار الثوري سيقطع عليه الطريق خيار ثوري، أما التصويت الحزبي فسيكون في أشد حالاته عريا، ولن يصوّت لمرشح الحزب إلا منخرط الحزب.. التصويت المفيد لم يعد مفيدا، والتصويت العقابي لن يعاقب أحدا، وليس هناك متعاطفون أو متردّدون. هناك فقط خياران: إما أن تصوّت لحزبك أو جهتك، وإما أن تلزم بيتك !.
إن الانتخابات الرئاسية المرتقبة، لا تشبه نفسها !.
هي فقط سبر آراء حول نوايا التصويت في التشريعية القادمة.. سبر له كامل المصداقية.
هي أيضا انتخابات داخلية تهمّ جهة الساحل. ومن خلالها سنعرف أي جهاته أكثر وزنا وقربا من السلطة.
وهي في النهائية انتخابات ثنائية من أجل قيس الأحجام، بين النهضة والمنظومة القديمة بكل فروعها، بين الخط “الثوري” كما يسمي نفسه والنهضة من جهة، وبينه وبين المنظومة القديمة من جهة أخرى، بين الوطد وحزب العمال، وبينهما مجتمعين وحركة الشعب…
ستوفّر الهيئة العليا للانتخابات كثيرا من المال والجهد لو قدّرت أن الدور الأول من الانتخابات الرئاسية يغني عن انتخابات شهر أكتوبر، وأنه يكفي أن يسمّي كل مترشح عددا من النواب يوافق عدد الأصوات التي حصل عليها.. وكفى المؤمنين شرّ القتال !.
•••
على عكس ما هو شائع، الخط “الثوري” الذي يريد القطع مع المنظومة القديمة لم يعد هو الغالب على الرأي العام. فبعد سنوات من الهرسلة الاعلامية والبروباغندا، نجحت المنظومة القديمة في فك الحصار عنها أولا، وفي التمدّد بعد انكماش ثانيا. أما الذين أمسكوا بالحجارة الغاضبة أيام الثورة، وأطلقوا من حناجرهم رصاص الشعارات، فلقد تركت فيهم هذه السنوات العجاف ندوبا شغلتهم حتى عن ممارسة حقهم في التصويت. سيظلون بمنأى عن المشهد برمته في انتظار غبار معركة أخرى ليعودوا إلى الحجارة من جديد. إنهم مثل صبيان الحيّ، لا تستثيرهم إلا معارك وسط الطريق !.
وعليه، إذا اعتقدنا أن الكتلة الناخبة للنهضة لن تتردد هذه المرة، في سلوكها الرئاسي؛ بين النظامين القديم والجديد، فالثابت أن الدور الأول من الرئاسيات لن يفرز سوى مرشحين: ممثل أكثر الأحزاب كتلة ناخبة، وممثل أكثر ماكينات المنظومة القديمة تسلّحا بالمال والاعلام وتوظيف السلطة.. ولن يبقى للإصلاحي والثوري سوى تعدد الزعامات !!.
•••
في الدور الثاني، ستعود حليمة إلى سلوكها المعتاد، وسترتد الديموقراطية التمثيلية إلى حضن أبويها القاسيين: المال والاعلام !..
في هذا الدور، تستعيد الآلة الاعلامية نجاعتها، والأموال المحلية والأجنبية سطوتها، والماكينات المفتّتة عافيتها.. ويصبح الانتخاب وكأنه تنصيب.. لتطل علينا المنظومة القديمة في قصر قرطاج من جديد.
وكل انتخاب وأنتم على أمل.