تدوينات تونسية

كان ذات "باكالوريا"

الخال عمار جماعي

لا أريد “النّفخ” في جيلنا، جيل أواخر العهد البورقيبي، فلنا “خزعبلاتنا” أيضا.. ولم نكن أنبياء ! لكن في باب المعارف وصحبة الكتب وإجلال ذوي العلم، كنّا -والحقّ يقال- جيلا نَهِما جدا، مُوقِّرا جدّا.. أصحاب عِشرة حقيقين !
كنت، زمنئذ، مرفوتا من معهدي بـ”الحامّة” في أوّل جيل للباكالوريا هناك ! فقد “تصعلكت” على السيّد المدير حتّى أفتى مجلسه بضرورة التخلّص نهائيّا من “نومرو” ! سمع والدي -رحمه الله- بالخبر فرأى أنّه “خير” فله شياه تركها همّلا والولد قد إشتد عوده للرّعي ويكفي عنده في الدراسة “أن يفكّ الواحد الخطّ”.. أمّا الوالدة -رحمها الله- فقد وجدتها تخبط صدرها وتبكي: “ضيّعتنا يا كبدي ! خسارة ما ڨلعت من زرابي على خاطرك !”.. بتّ ليلتها حرج الصّدر ضيّقه.. وبكت أمّي كثيرا !!
في الفجر، أيقظتني.. أمسكتني من يدي وقالت: “لم اغمض جفنا.. هيّا معي.. لا شكّ أنّ سي محمّد قد ذهب لصلاة الصبح”.. سي محمّد -رحمه الله بواسع رحمته- هو أحد أعمامي الكبار ويشتغل ساعتها قيّما في المعهد.. بقينا ننتظر أمام بيته ولم نجرؤ على دقّ بابه ! حتى أقبل من صلاته.. ارتمت الوالدة تقبّل يده وتبكي وتحدّثه عمّا حلّ بنا من ضياع الولد.. كنت خجلا من نفسي ولكن كنت مستعدّا لتقبيل رجله لأعود للدّرس !
قال: “سنرى !”..
اخترت صيفي ذاك محبس البيت.. قرأت كتبا كثيرة.. كنت أجمع الكتابين والثلاثة في الوقت نفسه.. وأنا وأمّي نتحرّق لـ”سنرى”!!.. لم تغفل -رحمها الله- أن تبرّ سي محمّد من حين لآخر ببعض “هدايا البدو” من بيض ودجاج وخبز ناضج.. حتّى “البسيسة” فلسيدي محمّد نصيبه الأوفر !…
مرّ الصيف كلّه، ورأيت التلاميذ يلتحقون بـ”الباكالوريا” فأعود لبيتنا متجهّما.. تقول لي -رحمها الله- : “والله كان نبيع عليك خُرصي !!”.. فأخجل كثيرا.. وأعود لكتبي !
مرّت الثلاثية الأولى.. ولا شيء من “سنرى”!.. حتّى قدم علينا سي محمّد وقال حاسما: “غدوة تلتحق بمعهد أبي لبابة بقابس”!!.. أقسم أنّي لم أنم ليلتها !
سأتجاوز تفاصيل كثيرة خشية الإطالة وخوف تحريك ألم عظيم.. اجتزت إمتحان الباكالوريا صائما.. فقد كانت في أوّل رمضان !.. وفي الحقيقة لم يكن الناس يهتمون بالأمر.. فقد كنت في جهتي الوحيد الذي وصل الباك ! فأغلب أترابي من أبناء العمومة انقطعوا باكرا.. وحدها تلك الطاهرة كانت تراهن على العلم والمعارف.. هذا فضلا على كوننا كنّا عائلة منتبذة لأننا آثرنا أن نسكن “المدينة” وتركنا رزقنا مستباحا !!!
يوم النتيجة.. تدبّرت “كميونة” يشتغل عليها إبن خال لي وذهبنا إلى قابس.. نجحت مع أربعة زملاء بملاحظة “قريب من المتوسّط جدّا”.. عدنا إلى البيت فوجدت أمّي وأخواتي منتظرات.. كانت الوالدة في الشارع مكشوفة الرّأس وتسأل من بعيد.. كان على ابن خالي أن يشغّل المنبّه لتفهم !! اعتصرتني في حضنها باكية.. بحثت عن زغردتها فجاءت بحّة بين غصصها..
لم أكن اعلم أنّها خبّأت قارورة “شروبو” أحمر إلاّ حين أخرجتها من طيّات “المرڨوم” !!!
رحمك الله أيتها العظيمة، لن تبلغ رسالة “الماجستير” – التي أهديتها لك- دمعة واحدة من دموع “قهر الدولة” لنا…
ورحمك الله سي محمّد بالسّعود.. لن أنسى ما حييت حسن فعلك معي.
“الخال”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock