السّلف والسّلفيّة والسلفيّون

بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
“أستاذ، ما رأيك في التيّار السلفي…”؟ وصلني السّؤال بهذا اللفظ من طرف طالب جامعيّ من الجزائر، وتردّدتُ في الإجابة عنه، نظرا لكون هذا السؤال لا يمكنه أن يكون السؤال الأول الذي يقتضي منطق الأشياء أن يطرح؛ ينبغي أن يسبقه سؤال منهجيّ آخر هو : “ما هي السلفيّة ومن هم السلفيّون؟”. فإذا تسنّى لنا الاتفاق على التعريف، سهل بناء الرّأي عليه وتيسّر الإبحار على متنه. أنا إذا عجزنا عن الاتفاق في تعريف السّلفيّة، فلا طائل أن نجمع الناس على رأي في التيارات التي تخلع على فهمها رداء السلفية، فذلك سيكون ببساطة أمراً محالاً.
ويشهد الله أنه ليس لي من دافع في هذه المقالة غير النصح لأجل المحبة، فالدين النصيحة، والتماس وجه الحق في هذا الموضوع الذي شغل الناس وفرّقهم شيعا، علّني أساعد الخلّص والصادقين على تخيّر سبل التفكير والتدبير عن دراية ونظر وحرّية وتقرير، لا عن غفلة ووهم وخلط وتبرير. فأقول وعلى الله العليم الحكيم التّكلان:
أوّلا : معالم في الفهم والإدراك لا بدّ من مراعاتها.
لا يمكننا فهم القضايا المعقدة جدا –مثل قضية السلفية – في كلمات سطحية سريعة، ومن دون مقدمات ووسائل تحليل. إنما كثر الخلاف بسبب الجهل المنتشر بين الناس، وبسبب السطحية في الحكم وشدة الاختزال وغياب الرؤية في التحليل واختلاط الألوان على الناس. وتذليلا لكلّ صعوبة في الفهم، يجدر بالباحث النّبيه والعالم الخرّيت والمستقصي الفطن أن يراعي أموراً تعينه على حسن السير في اتجاه قطف ثمرة المعرفة، والتمتّع بطيب مذاقها في هذا الباب، منها :
1. أن المصطلحات المستخدمة هي كلمات تواضع النّاس عليها في أزمنة مختلفة ومتباعدة في الزمن وفِي الجغرافيا، وأن بقاء الاستخدام لتلك المصطلحات على طول الزّمان لا يقوم دليلا على بقاء التعريف نفسه. فإذا تناقش الناس تعذّر اتفاقهم إذ كل واحد منهم يفهم معنى مختلفا من الكلمة، لأنه في كلّ عصر ومصر، قد يستخدم الناس الكلمة نفسها لمعان مختلفة أو متناقضة أصلا! ولقد أشار العلامة ابن حزم الأندلسي الظاهري إلى هذه المعظلة وشرح ما لاختلاف مقاصد الكلمات من آثار. والأمثلة كثيرة في واقعنا، منها كلمة (حجاب)، فالنّاس في زماننا يعنون به غير المعنى الذي ورد في القرآن عن الحجاب. ومنها كلمة (إرهاب)، فهي في منطوق اللسان العربي والقرآن الإرهاب مجرّد تخويف، بينما هو الْيَوْم عند الناس “جريمة بدوافع سياسية”، ومنها كلمة (إسلاميون)، فهي في القرن الرابع الهجري كانت تعني فئة من المتكلّمين بالفلسفة، ثم قبل خمسين سنة كانت تعني في الغرب : البحّاثة الغربيون المختصون في دراسات الإسلام، بينما نجد ذات الكلمة الْيَوْم تعني الإسلام السياسي، وصاحبه مهدد بوضع في قائمة المنظمات الإرهابية الممنوعة !
2. أن المصلحات – كما أشار أستاذنا الصديق محمد بقاص، حتى على فرضية اتحاد الناس في تعريفها، فليس مضمونا أن تجمع المتشابهين في الفكر والسلوك! فما يطلق عليهم الناس لفظ (سلفيّون)، يشمل تيّارات أقصاها ينادي برفع السلاح وفتح جبهات قتال ضد الأنظمة والمجتمعات الرافضة للخضوع لهم، إلى تيارات مهادنة للحكام ومدافعة عنهم مستمية في تبرير أفاعيلهم حتى إن كان الثمن هو التخلي عن تسعة أعشار العقل لكي يقبل التبرير السخيف الذي يقدّمونه.
3. دور التوظيف السّياسيّ : يعتقد النّاس الذين لا يبالون بالبحث عن جواهر الأشياء وألبابها، أنّهم بمجرّد التقاط معنى شائع في الإعلام أو على ألسنة الناس، وإطلاقه على فئة من النّاس هو كاف للمعرفة وإدراك الفروق بين الأشياء، إلا أنّ الوعي والرأي العام يتشكّل بكيمياء معقّدة جدّا، يدخل فيها أيضا التوظيف السّياسيّ المنخلع من ربقة القيم والمثل، والذي هو نتيجة الصراع الغريزي على السلطة وعلى المسك بتلابيب الحكم، عن طريق القهر والغلبة. وأبرز مثال عن ذلك نسوقه من أكبر بلاد ترفع شعار السّلفية: فلقد صرّح ولي عهد السّعودية محمد بن سلمان في هذا المضمار لصحيفة أمريكية بقوله: (السعودية نشرت الفكر الوهابي السلفيّ بطلب من الغرب لمحاصرة المدّ الشيوعي) (المرجع : واشنطن بوست، عدد يوم 22-3-2018)). وهذا التصريح الشهير مهمّ جدّا ههنا، لأن الاعتراف سيّد الأدلّة، فهو اعتراف نادر جدّا قلّما يقع فيه السياسيون، ومعناه : أنّ ما ننشره ليس لكونه فهم وفقه السلف الصالح، بل لأن الغرب يحتاج نشر هذا الفكر لحل مشكلة غربية مع الشيوعية ! يعني أنه دخول في صراع غربي – غربي لا ناقة لنا فيه ولا جمل. وهو دليل صارخ على أن الكثير من التيارات التي ينفق الشباب فيها أحلى أيام دهرهم، ويفنون في سبيلها أعمارهم ليست سوى حركات دينية موظّفة من طرف السياسة الميكيافيلية، ويقع في أوحالها المغفّلون والحمقى والجاهلون. والأدهى والأمرّ أن ينسب ذلك الفهم السقيم إلى النبيّ الكريم سيّد الخلق أجمعين، وإلى السلف من أتباعه الميامين!
ثانيا : السّلف، والسّلفية في التعريف اللغوي
السين واللام والفاء في العربية لها دلالة أصلية هي : التقدّم والسبق والمضي. لذلك، كل مشتقات كلمة سلف تعني التقدم : السّلف من الآباء، الذين تقدموا وفاتوا في الزمن، والسُّلفة بالرفع: الطعام الذي يؤكل قبل كل شيء، نسميه اليوم : مفتحات. والسلف في المال : المال يقدم على الإرجاع الذي يؤخر. والسُلاف، ماء العنب الذي يخرج مقدما قبل أن يعصر. من هنا، كان معنى السلف والسلفية مأخوذا من أسلافنا المسلمين المتقدمين زمنيا، اختصوا به الجيل المؤسس للدين من الصحابة التابعين ممن كانوا على منهج محدد وطريقة معينة في التعاطي مع نصوص القرآن والسنة النبوية بعد ظهور الفلسفة وعلم الكلام، إبان التحوّلات الفكرية والعقلية والعقدية الهائلة التي عرفها المسلمون عبر الحقب التاريخية المختلفة.
ثالثا : السّلف، والسّلفية في التعريف الاصطلاحي الأصلي
تخفيفا على القراء، أتحاشى الدخول في تفاصيل المعتقدات والأفكار وأكتفي بتعقب ظهور التسمية فقط. لقد بدأ تداول كلمة “السلف والسلفية – على أرجح الأقوال – في أواخر القرن الثالث الهجري مع ظهور الأشاعرة، والذين أطلق عليهم هذا اللقب نسبة لأبي علي الأشعري المولود في البصرة سنة 260 هج. كان العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري يموج بالحركية الفكرية والفلسفية والترجمة والتمازج بين التيارات حاولت مدرسة الأشاعرة استخدام علم الكلام والفلسفة للدفاع والذب عن عقائد المسلمين كما فهمها سائر السلف من الصحابة والتابعين وفقا لما صح عندهم من نصوص الكتاب والسنة، وقالوا ” طريقة الخلف في الرد على المخالفين لأهل السنة بعلم الكلام أعلمُ وأحكمُ، وأن طريقةَ السلف في الاقتصار على الكتاب والسنة في الاستدلال أسلمُ وأحوطُ. فنشأت تسمية أهل السلف من ذلك وقبل بها رافضو الأشعرية، وكانت التسمية التي عرفوا بها قبل أهل السلف” هي “أهل السنة والجماعة” مقابل مذهب المعتزلة العقلي الذي تبناه بعض خلفاء بني العباس وتسبب في نقاش فكري كبير وعنيف عند المسلمين. وقبل هذه التسمية، كان يطلق عليهم مصطلح “أهل الحديث” كمقابل “لأهل الرأي”. وعلى هذا، تعددت التسميات بحسب التطورات التاريخية كالتالي : فكانوا بلا لقب يعرفون به في البداية، لقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه حين سألوه عن أهل السنة والجماعة فأجاب: ” الذين ليس لهم لقب يُعرَفون به؛ لا جَهْمِيٌّ، ولا رافِضِيٌّ، ولا قَدَرِيٌّ”. ثم عرفوا بأهل الحديث، فأهل السنة والجماعة، ثم أهل السلف بعد ظهور المدرسة الأشعرية، ومنها ظهرت تسمية السلفية، وتهيكلت فكرتها حول شخصيات شهيرة من بينها الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وابن تيمية.
رايعا : السّلف، والسّلفية وأنظمة الحكم
شهدت المدرسة السلفية انتعاشات تاريخية متتالية مشرقا ومغربا، وظلت الدول المختلفة شديدة الحرص على توظيف الرأي العام الشعبي والرأي العام النخبوي كأيديولوجيا أو كإسمنت مجمّع لمختلف القبائل والشعوب، بغية تشكيل دول وبسط النفوذ على مناطق جغرافية مختلفة. وتم استخدام المدرسة السنية في نسختها السلفية لأجل ذلك في عديد الدول، منها الدولة الأموية التي تبنت المدرسة السلفية وفسرتها لحسابها السياسي، والدولة المرابطية في بلاد المغرب الكبير، ونسختها السلفية المالكية، والدولة الرستمية جنوب الجزائر في نسختها السلفية الإباضية، ودول أخرى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها في هذا الموضع.
لكن ما يهمنا في باب التوظيف السياسي هو ما حصل خلال القرن الثامن عشر في شبه جزيرة العرب، حين تحالف محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792) ومحمد بن سعود لنشر الدعوة السلفية وتأسيس الدولة السعودية الأولى والتي سيطرت على شبه الجزيرة العربية وأجزاء من العراق والشام واليمن. وقد كانت بدايتهما في الدرعية بنجد إذ أعلن محمد بن عبد الوهاب “الجهاد” فشن سلسلة من الحروب كانوا يسمونها بالغزوات تكللت بتوحيد أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية، إقامةً لدولة التوحيد والعقيدة الصحيحة وتطهيرًا لأمة الإسلام من الشرك في نظرهم، الأمر الذي جعل من بعض خصومهم يرى في اتهام محمد بن عبد الوهاب ومريديه للآخرين بالشرك مواصلةً لطريقة فكر الخوارج في الاستناد لنصوص الكتاب والسنة التي نزلت في حق الكفار والمشركين وتطبيقها على المسلمين، بينما يرى الوهابية أنهم هم أهل السنة وهم أتباع الفرقة الناجية، وفي النهاية نتج عن هذه الحروب قيام الدولة السعودية الأولى، فاستطاعت أن تصل إلى دمشق وكربلاء شمالاً وعُمان والحديدة باليمن جنوباً، وورثتها الدولة السعودية الحالية بعد تغيير حدودها بحكم معاهدة سايكس بيكو في بداية القرن العشرين، وتبنت الدولة السعودية الرسمية الأيديلوجيا الوهابية التي استولت بدورها على فكرة “أهل السلف، وأهل السنة والجماعة”، واعتبرت الخروج عليها هو خروج على أهل السنة والجماعة، ومازلت هذه الفكرة موظفة إلى يوم الناس هذا، مع بعض التراجع في أمور هامشية، مسايرة للضغوط الداخلية والخارجية.
وهكذا يتضح بأن هذه التسميات المختلفة على مرّ الزمان جاءت في ظروف فكرية وسياسية وثقافية وجغرافية متباينة جدا، وهو ما أدى لوقوع خطأ معرفي كبير في أذهان مسلمي هذا الزمان، وهذا الخطأ هو إطلاق كلمة “السلفية” على كلّ من نسب نفسه للسلفية دون علم بحقيقة السلفية، ودون معرفة بجوهر الفكرة السلفية وسياقات ظهورها التاريخية وماذا تعنيه على وجه الدقة والتحديد في كل عصر ومصر، وهذا يهدد بشكل خطير المستقبل الوجودي للمسلمين باعتبار السلفية قدمت نفسها على مرّ الدهور على أنها هي جوهر القيم والمثل الإسلامية الصافية النابعة مباشرة من المعين النبوي وتطبيقاته في زمن الصحابة والتابعين.
وبوصولنا عند هذا الحدّ من التحليل، يمكننا أن نتساءل الآن عن الموقف من “السلفية” والسلفيين: هل السلفيون هم حقا حاملو منهج أهل الحديث وأهل السنة والجماعة كما عرفهم التاريخ الإسلامي؟ من هم السلفيون حقا في زماننا وفق التعريف الأصلي؟ وهل يصح منطقا وواقعا أن نسميهم سلفيين؟ وماذا يمكن أن يكونوا إن لم نطلق عليهم اسم السلفية؟؟؟
هذا ما سنتناوله في الأيام القليلة القادمة، في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا الموضوع، بحول الله وتوفيقه.
✍🏽 #بشير_العبيدي | شوال 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |