مقالات

قهوة بلا هاتف ولا نظارات

منجي الفرحاني

أهديها إلى صديقي المحامي الشريف، الشريف الجبالي شفاه الله…
خرجت الليلة دون هاتفي الذكي الغبي الجوال ولما تذكرته في سلم العمارة تعمدت عدم العودة إليه فقد تكون للقهوة نكهة أحلى دونه..
ابن الفعلة هذا أصبح يتحكم في مزاجي كيف يشاء بفايسبوكه ويوتوبه وڨوڨله وانستاڨرامه ومسنتجره ومواقعه المختلفة، كأنه امرأة شمطاء تزوجتَها على حين سكرة ولما صحوت وجدت نفسك أبا منها لدستة من البنات يشبهونها خلقا وخلقا، مدان لله وللبنوك ولنفسك على هوانها عليك ليلة السكرة الورطة، تشهق ولا تلحق وهي تأمرك فيما يشبه نهيق البوم بالكوش والدوارة والقرع وألا تنسي في طريقك كيس الزبالة..
في الغرب ”الكافر” يمكنك أن تمارس حقك في أبغض الحلال وتطلقها على قرف تكشير أنيابها في صباحات قهوتك دون أن تسجنك على النفقة أو تحرمك من نسلك وفصلك ومالك وماء وجهك وتتخذك عدوا..
ما لي أنا وما لهذه الكوابيس؟
ربي يهدي صديقي رمزي.. حدثني عن حية تسعى في حيه، طلقت زوجها الذي يحبها حبا جما وأفنى سنين من عمره في خدمتها وفي المحافظة على عش زوجية ظن أنها لن تعبث به أبدا فكتب لها العش والسيارة عن محبة وود، ولما تمكنت أغلقت الغش واكترت غيره نكاية فيه ليتضاعف مبلغ النفقة ثم رمته بأغراضه وحبه لها ولأطفاله بلا شفقة ولا رحمة على الرصيف، فسقط على عقله فوقع منه وذاب على حافة القهر..
تذكرت أن صديقي البهلول حدثني عنه قبل شهور.. قال:
– كان يكتفي من العلب الخاوية، بعلب الجعة المحلية ويسكر كل ليلة على نخب طليقته ويتبول على وجه الوطن في كشك الجرائد المهجور قبل أن تدهسه سيارة يسوقها عاقل سكران فمات وتركني وحدي.. كان صديقي..
قلت:
– في المرة القادمة سأحدثك عما يفعل المحسوبين علينا رجالا في النساء كي نعدل..
ضحك صديقي البهلول ووعدني أن يحدثني في المرة القادمة عن قصة صديقته الجديدة التي يرجو لها من الله دوام الجنون..
عاودني حنين رهيب إلى زهرات التوليب في حقول هولندا المنبسطة.. لم تضمرن لي يوما شوكا ولا رحيقا مغشوشا ولا نكدا على عكس زهرات بلادي البريات، أثخن قلبي أشواكا وأحزانا ونكدا.. استعذت بالله من الشيطان الذي يحاول أن يفسد علي قهوتي بعيدا عن هاتفي.. كان اللئيم يوسوس لي عبره ولما اكتشف أنني نسيته جاء بشحمه ولحمه ليوسوس لي في المقهى..
– أنت تزين لي زهرات التوليب لتبعدني عن صاحبة العيون العربية العسلية ولتعيدني إلى سالف غربتي وتريح أصدقائك في السيستام الرجيم من مشاكساتي ومن كويرات الثورة التي تجري في دمي.. قم أعوذ بالله منك ومن أمثالك جنا كنتم أم إنسا..
اغرب عن وجهي فإني أعوذ بالله منك..
أخذت مكاني في المقهى لأكتشف أنني نسيت نظاراتي أيضا.. الرؤية عندي لا تنعدم أبدا ولكنها تكون ضبابية بعض الشيء عندما أنظر قريبا بين قدمي، أما عندما أنظر بعيدا هناك في الأفق الفسيح فإنها تكون على أوضح ما يكون..
نظرت في قاع فنجاني فرأيت صاحبة العيون العربية العسلية هناك ولكن صورتها دون نظاراتي كانت ضبابية هذه المرة في قلبي كأن بيني وبينها غيمة وأمدا بعيدا.. كانت منكسة الرأس تنظر بين قدميها لا تراني هناك في الأفق الفسيح، أحلق على صهوة حلم أرسم ملامحه بدم أشواكها الذي يسيل غزيرا وجلا وتراقص كويراته حبات نور القمر وترسم على وجهه عينيها العربيتين العسليتين مخضبتين بدمي..
كانت آخر الأخبار التي تصفحتها على هاتفي المنسي تتحدث عن معتمد أنيق يصافح الغنوشي أسال لعاب المحجبات والسافرات، المتزوجات منهن والآنسات والمأبونبن على أمرهم في مشهد عهر مفضوح ومقزز..
كان الغنوشي فرحا ببيان حزبه المهزلة الذي شكر فيه المجرم السفاح المدعو القلال لأن حضرة جنابه تواضع وحضر للمحكمة ليدلي بشهادته عن شهيد اسمه المطماطي، دفنه زبانية هذا الأخير في جسر..
ثم سبر آراء جديد للمزرقن الرجيم ذاته يقدم فيه حزب “ولد بوه الحنين” كمتصدر لنوايا التصويت والرجل بلا حزب..
اكتشفت أن طاولتي في المقهى تختلف عن بقية الطاولات بكرسيين صفراوين وثالث برتقالي ورابع أسود يليق بجميع أنواع الزهور من التوليب إلى الزهور البرية وما بينهم.. كانت صاحبة العيون العربية العسلية تختار البرتقالي أو الأسود وأنا أختار الأصفر الفاقع لونه الذي يسر الناظرين كأن لونه من لون بقرة قوم موسي..
اكتشفت أن جدران المقهى تزينها أربع لوحات تشكيلية جميلة وثلاثة أجهزة تلفاز صامتة معدلة على قنوات كرة القدم وأن الموسيقي كانت “هاوس” صاخبة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بكلاسيكية ديكور المقهى..
الحاصيلو تحسها ملوخية بالقرع…
اكتشفت أن الفصل على اللوحات التشكيلية كان خريفا تركيا بأوراقه المتساقطة على الرصيف وطقسه المغيم وجمال مشهده..
اكتشفت أن العشيقين اللذين يعبران حدود اللوحة كانا على عشق.. كانت تحتضن ذراعه بقوة كأنها تخاف أن تهب عاصفة فتبعدها عنه.. اكتشفت سر اسم المقهى من اللوحات.. التوركواز…
اكتشفت أن للنادل الذي جاء يسألني ثمن القهوة لأنه أنهى حصة عمله، حول طفيف في عينه اليسرى وأن قميصه يحمل علامة أرنب البلايبوي الاباحية.. ذكرني بصديق متدين خلوق زارني مرة بقميص جعة الهاينكين الهولندية من حيث لا يدري..
اكتشفت وأنا أرشف آخر رشفة من قهوتي العربية أن من عنى “بفكر فلي ناسيني وبنسى الي فاكرني”، الكبير محمد عبد الوهاب كان يقصدني دون غيري.. لم أراقصها كعادتنا في قاع الفنجان، تركتها تنظر بين قدميها والسحابة تحجب بصيرتها وهي تحسب أنها تحسن رؤية..
اكتشفت أنني أخطأت عندما عشقت وانتظرت مقابلا من عينيها..
نظرت في قاع فنجاني علني أدركها.. رأيتها تبتعد رويدا رويدا منكسة الرأس تنظر بين قدميها..
تذكرت صديقي المحامي الشريف إسما على مسمى، محمد الشريف الجبالي كيف سممه السيستام الرجيم ليسكت كلمة الحق في صدره وهو على فراش مرضه، يرشف من فناجين قهوتي ويتعاطف معي في حكاية عشقي المجنونة الحزينة ويعدني بأن يدعو الله الكريم لي وهو من لا ترد عنده دعوة المريض.. عله يهيأ لي من أمري وصاحبة العيون العربية العسلية رشدا.. أو عساه يلهمها أن ترفع رأسها وتنظر بعيدا كي تراني…
فعافي اللهم صديقي المحامي الشريف وانصره على السيستام الرجيم وزبانيته كائنا من كانوا…
عشيقان صغيران يسترقان النظر إلي.. سمعته يقول لحبيبته:
– أول مرة نشوف راجل يكتب بالستيلو والورقة..
فتهمس إليه:
– من شكلو تحسو من مجانين الفن، زعمة كاتب والا ممثل؟
التفت فالتقت أعيننا مما جعله يتحرج قليلا ثم تدارك أمره بسرعة:
– سامحني بابا نلقى عندك شعول؟
– لا ما نتكيفش سامحني..
فهمس إلى حبيبته:
– فنان وما يتكيفش؟ كيفاش تجي هذي؟
– يا ولدي يتخمرو في فنهم.. في عيون عشيقاتهم.. في نسمة صباح شاردة.. في وردة مليانة شوك.. في ورقة هاربة من اللوحة هذيكا متاع الخريف.. في ضحكة طفلة صغيرة بريئة.. في قصيدة.. في لمسة انسانية.. في…
ثم توقفت فجأة عن الكلام المباح:
– ريتها المرا الي خرجت شادة ذراعو؟ ياخي موش كان يقول خلاتو ومشت مهبطة راسها؟
فصاح فيها:
– زعمة ربي استجاب لدعاء الشريف الجبالي المحامي؟
غادرت المقهى وحيدا حزينا وجلا..
اشتقت إلى هاتفي الغبي…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock