حزب مجهول يتصدّر نوايا التّصويت !
صالح التيزاوي
في أواخر القرن الماضي، عندما علت أصوات المتظمّات الحقوقيّة منتقدة الأنظمة العربيّة الشّموليّة بسبب استبدادها وقسوتها في علاقتها بشعوبها، جاء ردّ الأنظمة البائسة في إحدى قممهم بأنّ على العالم الغربي أن يأخذ بعين الإعتبار “خصوصيّة” العالم العربي.. ولم تكن تلك الخصوصيّة سوى تحيّل من أجل إطالة عمر الإستبداد والغاء الدّيمقراطيّة بذريعة أنّ الشّعوب العربيّة لم تجهز بعد للدّيمقراطيّة.
لم تكن تونس بدعا من تلك الأنظمة، ولم يكن حزب التّجمّع بدعا من الأحزاب العربيّة الحاكمة، بل إنْه زاد على التّحيّل العربي تحيّلا تونسيّا صرفا، عندما روّج بن علي ونظامه أنّ الدّيمقراطيّة لا تقتصر على الحقوق السّياسيّة والمدنيّة، وإنّما لها جوانب اجتماعيّة (الدّيمقراطيّة الإجتماعيّة) ليوهم العالم بأنّه منشغل بتوفير التّنمية ومواطن الشّغل وتحسين الخدمات الصّحّيّة وسائر مقوّمات الأمن الإجتماعي، وبذلك يتفادى الإنتقادات الدّوليّة التي تتّهمه بالإستبداد. ولمّا اندلعت الثّورة على حكمه بسبب البطالة والفقر وحرمان الدّواخل والقواحل من التّنمية، أدرك الجميع كذبة “المعجزة الإقتصاديّة” وفرية “الدّيمقراطيّة الإجتماعيّة” التي ابتدعها نظام بن علي، فلا نحن أدركنا تحت حكمه ديمقراطيّة اجتماعيّة ولا سياسيّة، وهو ما أدّى إلى الثّورة على حكمه.
حاله في ذلك حال الأنظمة القومجيّة منذ عبد النّاصر وحتّى بشّار، صادرت الحرّيّة وأمّمت الحياة السّياسيّة وكمّمت الأفواه، شعارها في ذلك “لا صوت يعلو على صوت المعركة” بذريعة الإستعداد للمعركة الكبرى (معركة التّحرير) وكانت النّتيجة خسارة مدوّيّة في المعركتين (الحرّيّة والتّحرّر) لأنّهم لم يدركوا أنّ تحرير الأراضي المغتصبة وتحرير المقدّسات أشرف وأجلّ من أن يقودها مستبدّون وقتلة تلطّخت أيديهم بدماء شعوبهم. استخدموا المال والسّلطة بلا ضمير. وهو ذات الخطاب الذي تبنّاه بورقيبة عندما قال بأنّه ورث من الإستعمار الفرنسي “غبار مجتمع بشري” ليبرر بذلك تأجيل الدّيمقراطيّة، بما يعني أنّ المجتمع التّونسي لم يبلغ من النّضج ما يؤهّله لخوض غمار التّجارب الدّيمقراطيّة.
بعد الثّورة، رحل رأس النّظام وبقي النّظام بأكمله، ليعود إلى الحكم من بوّابة الدّيمقراطيّة التي لم يكن يؤمن بها أصلا، مستفيدا من قيم الثّورة ومستفيدا من إسقاط قانون العزل السّياسي أو ما اعتبر في حينه “قانون تحصين الثّورة”. حيث عادت الأحزاب المستنسخة من التّجمّع المنحلّ إلى أسلوب التّحيّل على الشّعب. ظهر ذلك مع نداء تونس الوريث الشّرعي لحزب التّجمّع، حيث قدّم نفسه في صورة المنقذ لتونس دولة وشعبا وتنمية لما لحقها من وهن بسبب الحكّام الذين جاءت بهم الثّورة، فكانت بداية التّحيّل، التّباكي على امرأة لم تأكل اللّحم لأكثر من ثلاثة أشهر، وأطلق حملة انتخابيّة عنوانها الأبرز “برامج اقتصاديّة تدوّخ” أشرف على إعدادها “مئات الخبراء” وقالوا بأنّها ستحدث نقلة نوعيّة في حياة الشّعب التّونسي وتنسيه حكم التّرويكا. فماذا حدث بعد ذلك؟
عشنا مع حزب النّداء حرب الشّقوق على المواقع وأنتقلنا من الفقر المؤقت إلى الفقر الدائم ومن الغلاء المؤقّت إلى الغلاء الدّائم ومن الفوضى المؤقّتة إلى الفوضى الدّائمة ومن بناء المؤسّسات الدّستوريّة إلى محاولة تعطيلها ومن مقاومة الفساد وإن كان على استحياء إلى العفو عن الفاسدين (قانون المصالحة الإقتصاديّة سيّء الذّكر الذي تمّ تمريره تحت قبّة برلمان الثّروة).
ومع قرب الإستحقاق الإنتخابي واليأس من المراهنة على “حزب النّداء” باتت المنظومة القديمة تبحث عن وريث للحزب الفاشل، ويبدو أنّها منقسمة على نفسها، فبعضها يدعم حزب “تحيا تونس” وبعضها يدعم “النّوّاحة والرّدّادة” سليلة الشْعب بخطابها النوفمبريّ البائس. ويبدو أنّ بعضها الآخر أصبح يراهن على صاحب قناة العائلة ورجل “البر والإحسان” فهل يكون نبيل القروي حصانهم الجديد في مضمار السّباق إلى قصر قرطاج وإلى البرلمان؟
تشير بعض استطلاعات الرّأي غير الموثوق بها بأنّ نبيل القروي و”حزبه المجهول” يتصدّران نوايا التّصويب!! لا يعرف عن “برلسكوني تونس” أنّه صاحب فكر أو أنّه صاحب مقاربات اقتصاديّة أو أنّه صاحب رؤية سياسيّة واضحة وليس له حزب ينشط في الواقع، سوى أنْه صاحب قناة إعلامية انخرطت في الصّراعات الحزبيّة، تناصر شقّا على شقّ وتدعم طرفا على آخر وتوظّف أزمات البلاد لخدمة أهداف سياسيويّة، ضاربا صاحبها عرض الحائط بقواعد وأخلاقيات مهنة الإعلام. ولم يكتف بذلك، فعمد إلى توظيف العمل الجمعياتي (جمعيّة خليل تونس) لتكوين شبكة من العلاقات الإجتماعيّة في كامل الجهات (الخليليّون والخليليّات)، وهو اليوم يعمل على استخدامها لتحقيق مكاسب لا علاقة لها بالعمل الخيري. فكانت المحصّلة إفسادا بيّنا للإعلام ؤإفسادا للعمل الخيري وإفسادا للحياة السّياسيّة برمّتها. فهل ببعض الأغطية والملابس المستعملة وشيء قليل من “باكوات” المقرونة ومثلها من علب الطّماطم وكمّ هائل من المسلسلات التّركيّة المدبلجة يختار التّونسيّون رئيسهم المستقبلي ويصوّتون لحزب لا وجود له في الواقع؟!
وفي المقابل، هل لخصومه ومنافسيه الحقّ بعد أن صمتوا طيلة أربعة أعوام خوفا من أن يكونوا في مرمى قناة العائلة أو طلبا لودّها أو على الأقلّ تحييدها أن يرفعوا اليوم أصواتهم متذمّرين من توظيف “العمل الخيري” لتحقيق مكاسب سياسيّة ونحن على بعد أشهر قلائل من الإستحقاق الإنتخابي وأن يتنادوا لتغيير القانون الإنتخابي أو الدّعوة إلى تأجيل الإنتخابات حتّى يتسنّى لهم الفصل بين العمل الجمعياتي والعمل السّياسي (وهم محقّون في ذلك) ولكنّهم كمن يتصدّى لفساد كبير بفساد أكبر، ومن يواجه تحيّلا بمثله.