رمضان في القرية
حسن الصغير
في أوائل ثمانينيات القرن الماضي كان شهر رمضان الكريم يحل في شهر أوت/أغسطس أي في فصل الصيف وذروة موسم الحر. وعندها كنت في الحادية عشر من عمري وقد بدأت لتوي صيام الشهر مثل الكبار.
وفي ذلك الزمن لم تكن الكهرباء قد دخلت القرية بعد وهو ما يعني أنه لا وجود للثلاجات في كل بيوت القرية لذلك كان الأهالي يتحايلون ويتفننون في تبريد المياه لمواجهة العطش الشديد بعد ساعات طويلة من الصيام في طقس تقارب الحرارة فيه 50 درجة.
فكان البعض يخيط كيسا من الخيش على جرة أو برادة أو حتى وعاء بلاستكي بحيث يكون الكيس فضفاضا ثم يملأ الحيز بين الجرة وغلافها بالرمل وهناك من يغرس فيه الشعير ويصبون عليه الماء باستمرار حتى يحافظ على برودته.
وهناك من يجلب الماء من البئر أو الماجل فترة قصيرة قبل الإفطار كي يظل باردا .. وهناك من يحفظه في “سماط” وهو عبارة عن جلد الماعز أو الغنم المطلي بالقطران باعتباره مادة عازلة.
وككل أهالي القرية كانت عائلتي تعتمد هذه الوسائل لتبريد المياه وشخصيا كنت أفضل ماء البئر لان مياه السماط يشوبها طعم القطران المر والذي يستسيغه البعض لكني أمجه.
وكانت الأسر في رمضان تغير من عاداتها الغذائية رغم الفقر فيسمح بالتمتع ببعض الأكلات الاضافية عكس بقية شهور السنة.
أما قائمة الطعام فكانت بسيطة ولا تكاد تتغير فهي تتكون من الشوربة مفتحات وطبق رئيسي هو خبر الطابونة (الجرادق) ومرقة بطاطا أو كسكسي أو مقرونة مطبوخة وكانت مائدتنا تخلو تماما من السلطات والتحلية وغيرها.
وفي بعض الأيام كنا نشتري قارورة مياه غازية من نوع سينالكو ذهبية اللون عادة سعتها لتر واحد تقتسمها الأسرة المتكونة من 7 أفراد.
كنت عصر كل يوم أغمس منشفة في الماء ثم أضعها على رأسي وأتبع شياهنا إلى سهل قريب إلى ما قبل موعد الإفطار بقليل.
وكان والدي يحرص كل مساء على متابعة برنامج تحية الغروب على الإذاعة الوطنية وكنت أتابع فقرات البرنامج يوميا حتى حفظت ترتيبها.
فعندما يبدأ الشيخ الطبلاوي في تلاوة القرآن الكريم أدخل الشياه إلى الزريبة وأمضي مسرعا للبيت وقد أخذ مني الجوع والعطش كل مأخذ.. بعد ذلك يؤذن لصلاة المغرب حسب توقيت مدينة تونس وهو يعني أن إفطارنا سيكون بعد 10 دقائق تقريبا.
كان مسجد القرية يبعد عنا كثيرا بحيث لا نستطيع سماع الآذان ولكن كانت لنا طرقنا لمعرفة وقت الإفطار فكنا نصيخ السمع لسماع صوت المدفع الذي يطلق من مدينة قفصة التي تبعد عنا 50 كيلومترا أو نراقب منازل الجيران الذين يسكنون في المرتفعات ويسمعون الآذان فيشعلون نارا كبيرة تراها باقي بيوت القرية المتناثرة.
أما سهرة رمضان فكانت بسيطة بساطة أكلنا إذ لا توجد تلفزات في القرية إلا في بيتين أو ثلاثة من المرفهين بمقياس القرية فكان الرجال والشبان يتوجهون إلى مسجد القرية لصلاة التراويح ثم إلى دكاكين صغيرة تحولت في رمضان إلى مقاهي أما نحن الأطفال فكنا نلتقي بعيدا عن البيوت لنلعب ألعابا كثيرة شيقة مثل الغميضة وعصية سيدي تليل وشاشية فوق ظهور الخيل ونظل نلعب حتى يأخذ منا التعب مأخذا فنعود لبيوتنا.
واليوم ورغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على هذه الأيام مازال صوت الطبلاوي يرن في أذني وطعم خبز الطابونة الساخن ومياه سينالكو الغازية تأبى حاسة الذوق لدي أن تنساهما !!!