حرب طرابلس.. المقدمات والأمم المتحدة وحسابات حفتر
خليل كلاعي
نشرت صحيفة البيان الإماراتية، في نسختها الإلكترونية في 22/11/2016 خبرا عن انعقاد الاجتماع الأول للمجلس الاستشاري لأكاديمية الإمارات الدبلوماسية، ورد فيه أن وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، ترأس الاجتماع الأول لمجلس الأكاديمية التي يرأسها وزير الخارجيّة الإسباني السابق، برناردينو ليون، الذي كان أمر تعيينه في هذا الموقع معلوما قبل أكثر من سنة من هذا الاجتماع، بعد تسريب صحيفة الغارديان البريطانية مراسلاتٍ إلكترونيةً لليون، عندما كان ممثلا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، أظهرت تنسيقه مع مسؤولين ليبيين ذوي هوى إماراتي، وكذلك مع عبد الله بن زايد نفسه، بشأن خطة عمل كانت منحازة إلى البرلمان الليبي المنعقد في طبرق، على حساب المؤتمر الوطني العام (أول مؤسسة تشريعية منتخبة في ليبيا بعد الثورة)، فضلا عما اشتملت عليه تلك المراسلات من نقاشاتٍ بشأن الامتيازات المفترضة للمبعوث الإسباني، بعد أن يتسلّم منصبه رئيسا للأكاديمية. وعُدّت تلك التسريبات، عند نشرها في “الغارديان” فضيحة غير مسبوقة في تاريخ الأمم المتحدة، وإن كان معلوما انحياز برناردينو ليون، في تلك المرحلة من تاريخ الأزمة الليبية، للبرلمان في طبرق على حساب المؤتمر الوطني العام، وكذلك تنسيقه الوثيق مع الإماراتيين، فإن دور الممثل الحالي للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، غسان سلامة، في تلك الأكاديمية نفسها لم يكن كذلك، على الأقل إلى وقت قريب.
في الصورة التي وثقت الاجتماع الأول لمجلس الأكاديمية في الخبر الذي نشرته صحيفة البيان الإماراتية، وظهر فيها برناردينو ليون قبالة عبد الله بن زايد، يظهر غسّان سلامة يجلس إلى جانب الأخير، حيث كان عضوا في المجلس الاستشاري للأكاديمية، لكن عضويته هذه لم تكن لتثير الانتباه، لولا إنكاره لها بشدّة، في مقابلته مع قناة الجزيرة، والتي بثت في 27 مارس/ آذار الماضي، عندما وجّه له مقدّم برنامج “بلا حدود” سؤالا عنها، ما حدا متابعين إلى اعتبار اللبناني سلامة على منهج الإسباني ليون الّذي كان مثلما بيّنته تسريبات الغارديان منفّذا أمينا لسياسة المحور الإماراتي في ليبيا.
حرب الثلاثين يوماً
وعلى كل حال، كانت هذه الفكرة برمّتها ستصبح من دون أدنى قيمة، لولا أن سياسة غسان سلامة في إدارته الأزمة الليبيّة في الأشهر الأخيرة كانت بمثل ما بدت عليه في الأشهر الأولى. كانت حرب الأيام الثلاثين الّتي درات رحاها جنوب طرابلس، نهاية الصّيف الماضي، مؤشرا على أن سلامة لم يكن على حياد مطلق بين جميع الأطراف، فقد ارتكبت الأطراف المشاركة في الحرب تجاوزات وخروقا بمقادير مختلفة، لكن عقوبات مجلس الأمن لم تطاول إلا صلاح بادي، المحسوب على الشقّ المناهض لاتفاق الصخيرات ولدور البعثة الأممية، دون غيره من زعماء التشكيلات المسلّحة التي شاركت في تلك الحرب. وعلى الرغم من أن غسان سلامة يعرف تمام المعرفة، والكلام له، مَن الّذي قصف المدنيين بالقذائف، ومن قصف مطار معيتيقة المدني مرات، فإن المفارقة أن الطرف أو الأطراف التي قامت بذلك ظلّت بعيدة عن أية ملاحقة، شأن مرتكبي الانتهاكات بحق مدنيين في درنة شرقي ليبيا وفي سبها جنوبها. وفي المحطتين، كانت بيانات البعثة الأممية خجولة، تكتفي فقط بالدعوة إلى ضبط النفس.
ما يدفع هنا إلى استحضار وقائع حرب الثلاثين يوما، وما دار بين محطاتها المختلفة. كان حضور البعثة الأممية خلال تلك الحرب كثيفا وبيّنا وحازما، وكانت لنائبة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني وليامز، صولات وجولات وقدرة فائقة على حسم الخلافات والعقبات خلال مفاوضات وقف إطلاق النار المتكرّرة. وكان غسان سلامة يغدو ويروح جيئة وذهابا بين الأطراف المختلفة، ولم تكن تصريحاته تخلو من حزمٍ يخالطه تحذير، غير أن كل تلك القدرة على التأثير في الفاعلين العسكريين، على اختلاف توجهاتهم، تبدّدت فجأة، على الرّغم من أن الحرب الحالية على أبواب طرابلس تجاوزت أسبوعها الثالث، فضلا عن أن تهديدها أكبر وأشمل، وعلى الرغم من أن وقوعها ينسف كل ما أمضى (أو هكذا أُريد لنا أن نفهم) غسان سلامة سنتين تقريبا في بنائِه، كما أن استتباعاتها المحتملة تهدّد بتحويل كامل الإقليم إلى كتلة ملتهبة. منذ بدأ اللواء المتقاعد خليفة حفتر تحرّكه العسكري باتجاه الغرب الليبي نحو طرابلس، تراجع دور البعثة الأممية، وتراجعت نبرة غسان سلامة بشكل ملحوظ، على الرغم من حجم التهديد وصلفه، ولم تظهر ستيفاني وليامز منذ بداية الحرب، ولو مرّة واحدة. وإذا كان ذلك يطرح أكثر من سؤال، ويفتح الباب أمام المشكّكين واسعا، فإن أدوار البعثة الأممية وبياناتها ومواقفها واصطفافاتها صارت في المرحلة الحاليّة من الأزمة الليبية أشبه بالمسكّن الّذي يخفف الألم ولا يعالج العلّة.
بدايات ومقدمات
لم تبدأ الحرب الدائرة على التخوم الجنوبية للعاصمة الليبية طرابلس في مطلع شهر إبريل/ نيسان الحالي، كما شاهدنا جميعا، وإنما زرعت بذورها منذ بداية الخريف الماضي، عقب انتهاء حرب الأيام الثلاثين بين كتائب طرابلس مجتمعة واللواء السابع القادم من مدينة ترهونة. أفضت المصالحة بين الفريقين خلال تلك الحرب إلى تسويةٍ غير عادلة بينهما، أو هكذا كان على الأقل تقدير الأطراف الاجتماعية داخل ترهونة لما خلصت إليه الحرب من نتائج. كانت المدينة تشكو من سوء الخدمات الاجتماعية وشحّ السيولة وضعف اهتمام الدولة المركزيّة في طرابلس بنقائصها. واستمرت الصورة على هذا النحو، إثر العمليّة العسكريّة التي حسِب اللواء السابع أنه لا يخوضها وحده، وكانت لها أهداف سياسيّة لا تخطئها عين المتابع، تتعلّق أساسا بكيفيّة توزيع كعكة “الوفاق” على كل الأطراف التي أيدت هذا المشروع، حتى وإن كانت بينها خلافاتٌ ترقى إلى درجة العداوة.
وبقطع النظر عن وجاهة الأسباب التي من أجلها تحرّك اللواء السابع، بداية خريف العام الماضي من عدمها، ومن دون الدخول في نقاش مدى شرعيّة تحرّك كتائب طرابلس لصد اللواء السابع عن تحقيق أهدافه المعلنة، فإن ترهونة، ومن ورائها اللواء المثير للجدل، أَثَرَت الهزيمة في نفسها، وخلصت إلى أن مشروع “حكومة الوفاق” لم يعد مشروعها، وأن البحث عن البديل هو أقوم الطرق لردّ اعتبار المدينة. تقاطعت هذه الرغبة في ردّ الاعتبار مع رغبة أخرى كانت تتعاظم في شرق البلاد، فاللواء المتقاعد خليفة حفتر تحرّك من معقله شرق البلاد نحو جنوبها عبر استراتيجية قديمة جديدة، قائمة على التسلم والتسليم، بتسويات قبليّة واجتماعية، تسمح لقواته ببسط سيطرتها على مساحات ومناطق واسعة من دون قتال. حدث ذلك مثلا في التسوية التي قادها شيخ قبيلة المغاربة، صلاح لطيوش، الموالي لحفتر، عند السيطرة على الهلال النفطي أواخر 2016. وتكرّر الأمر في سبها عبر تسويةٍ قادها أحد أعيان عرب قبيلة أولاد سليمان هناك. وأثار تحرّك حفتر السريع جنوبا، بالتوازي مع تلكّؤ العمليّة السياسيّة مراقبين شدّوا رؤوسهم، تحذيرا من أن التحرّك باتجاه طرابلس لن يكون إلا نتيجة طبيعيّة لاستكمال سيطرة اللواء المتقاعد جنوبا. وبدت اللقاءات التّحضيرية للملتقى الوطني الجامع الّتي كان حفتر وأعضاء في برلمان طبرق طرفا فيها، وخصوصا اجتماع أبوظبي مع رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، نوعا من الخداع الاستراتيجي الّذي كان حفتر يغطي، من خلاله، خطّة تحرّكه نحو طرابلس.
يبقى أن اللافت في هذا المسار أن البعثة الأممية جزءٌ منه، وقد كان رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، صريحا جدا في هذه الجزئيّة، حين قال إن حكومة الوفاق وقع تضليلها في تلقيها، عبر البعثة الأممية، شرحا مغلوطا عن معطيات ميدانيّة بعينها، فقبل انطلاق هجوم حفتر في الرابع من إبريل/ نيسان الحالي، رصدت قوة حماية (وتأمين) سرت، التابعة لحكومة الوفاق، في منتصف مارس/ آذار، رتلا من قوات حفتر، متجها صوب قاعدة الجفرة، مرورا بالحدود الإدارية لسرت. وحين طُلِب من البعثة استفسارٌ بشأن هذا التحرّك، نقلت البعثة حرفيا موقف حفتر من أن هذا التحرّك خطأ فردي، وأن مرتكبه سوف يعاقب. وعلى الرغم من أن الحادثة استفزّت، بشكل كبير، قوات مصراتة، فقد نقل المبعوث الأممي، غسان سلامة، إلى المسؤولين في المنطقة الغربيّة تأكيدات حفتر بأنه لن تكون هناك أية عملية عسكريّة في المنطقة الغربيّة قبل المؤتمر الجامع.
فشل حفتر
انتهج حفتر الأسلوب نفسه، قبل محاولته الدخول إلى طرابلس. اتفق مع أعيان مدينة ترهونة التي تعاظمت قطيعتها مع حكومة الوفاق، بسبب حرب الخريف الماضي، على مساندة تحرّكه العسكري. وكذلك كان الشأن مع مجموعات داخل غريان، وفي مقدمتها كتيبة عادل دعاب الذي انشق عن حكومة الوفاق. ومنذ الأيام الأولى لهذه الحرب، تراءى أمران مهمّان: الأول أن حفتر توقع اختراقا عسكريا سهلا لطرابلس، بالاعتماد على عامل المفاجأة وعلى الخلافات الواسعة التي كانت تشق صف الكتائب والتشكيلات المحسوبة على حكومة الوفاق، وهو ما يعني أن مدينتي مصراتة والزاوية مثلا لن تهبا لدعم كتائب طرابلس في هجوم حفتر عليها، بالإضافة إلى مجموعاتٍ في صرمان وصبراتة وورشفانة كانت جاهزة، تنتظر إشارة من حفتر للتحرّك إسنادا له. الأمر الثاني مفاجأة حكومة الوفاق وكل التشكيلات في فلكها بالهجوم الّذي لم يكن لديها لمواجهته أي استعداد.
أفشل خطة اللواء المتقاعد هذه أمران: الأول سقوط عامل المفاجأة، حين تمكنت قوات من مدينة الزاوية من أسر الكتيبة التّي تحرّكت غرب طرابلس، في محاولة للسيطرة على “بوابة 27” بكامل عتادها وعناصرها. والأرجح أن هذا السقوط المدوّي ثبّط عزيمة مجموعات أخرى، كانت تنوي التحرّك في الخط نفسه. الثاني تداعي تشكيلات من مصراتة والزاوية وأخرى محسوبة على مكوّن الأمازيغ للدفاع عن طرابلس، بالإضافة الى الدور المحوري الّذي لعبه رجلا مدينة الزنتان القويان، قائد المنطقة العسكريّة الغربّية، أسامة الجويلي، وآمر جهاز التمركزات الأمنية، عماد الطرابلسي.
بعد مضي ثلاثة أسابيع على تحرّك حفتر صوب طرابلس، يبدو أن قواته غير قادرة على تعويض عنصر المفاجأة الذي خسره في يوم الهجوم الأول، بل بات موقفه العسكري صعبا مع تنظم خطوط دفاع حكومة الوفاق، وتحوّلها شيئا فشئيا إلى خطوط هجوميّة، لم تتوقف عن تكبيده خسائر في جنوده وآلياته، ما أدى إلى قطع خطوط إمداد رئيسية عن قواته في أكثر من محور. وهو ما يهدد استمرار كامل العمليّة، حين تَعْدَمُ قوته مقومات الاستمرار والمقاومة. خسارة حفتر الكبرى من هذه الحرب ليست في نتائجها العسكريّة أيا كانت، بل في إخراجه من دائرة الفعل السياسي (حتى وأنه كان معتمدا على منصب عسكري مشكوك في شرعيّته)، وحشره في زاوية الفاعل العسكري المارق الذي لن يقبل خصومُه مجدّدا بالجلوس معه إلى طاولة واحدة، بعد أن انقلب على كل التوافقات التي عقدها معهم، بل تبدو خسارته أكثر فداحة، حين دان كل من أول رئيس لحكومة ليبية بعد الثورة، عبد الرحيم الكيب، وأول رئيس للمؤتمر الوطني العام (أول مؤسسة منتخبة بعد الثورة)، محمد المقريف، الهجوم على طرابلس. وفي إدانتهما له، إدانة مرحلة تاريخية بأكملها، استمدّ منها حفتر بعضا من شرعيّة عودته إلى المشهد، بعد سنوات منفاه الطويلة.
العربي الجديد